لا أدّعي أنني من أصدقاء العمدة محمّد صادق دياب -غفر الله له- ولكنّي أعرفه بما يكفي لأفتقده.. وأفتقد فيه روح الإنسان والفنّان والعاشق. أعرفه منذ كان مشرفًا على ملحق الأربعاء.. وأتذكر أن أول لقاء جمعني به كان مع ثلة من عشاق جدة في أحد مقاهيها الحميمة.. أتذكر منهم الأستاذ عبداللّه المنّاع، وسامي خميس، وعثمان الصيني، وقينان الغامدي، وآخرين.. وأتذكر سحورًا رمضانيًّا جمعنا أيضًا هو، وأنا، وعبدالله الصيخان، والمنقري، وأسماء نسيتها ومحتها السنوات في مقهى الصان ست بشارع فلسطين. ثم تواصلت لقاءاتنا البعيدة والعابرة؛ لكن حبل الود ظلّ قويًّا بما يكفي لأتجرع مرارة الحزن والذكرى والألم.. ألم فقد الأنقياء والبسطاء من الناس.. ألم الرحيل المر وغير المبرر. أهداني مجموعته القصصية (ست عشرة حكاية)، ثم كتابه التوثيقي الجميل عن جدة.. جدة التي عشقها حد التعب.. ولكن ويا لسخرية القدر ها هو يموت بعيدًا عنها.. يموت محاطًا بوحشة الغربة، وصقيعها اللندني.. يموت العاشق متوسدًا ذراعًا غريبة.. ويتنفس حتى النزع الأخير هواءً مشبعًا بالبعاد.. (ترى كيف مت يا محمّد)؟. عندما تُذكر جدة يتذكر الناس معها عاشقها وابنها الأجمل.. وأتذكر آن آخر نص كتبته عن جدة التأريخية تحت عنوان (اغتيال مدينة) أهديته إلى أجمل أبنائها إلى محمّد.. لكن الجريدة لم تنشره.. ربما رأت فيه شيء من القسوة والتجاوز.. ولكنّي وأنا أحد عشّاق جدة أيضًا كتبته تحت وطأة الألم لمدينة تتلاشي وتأريخ يأفل دون شهادة تأريخ إهمال لن يغتفر. جدة التأريخية تموت.. واليوم تفقد أجمل ما أنجبت.. محمّد الذي ظل يكتب عن حبيبة واحدة، وعشق وحيد؛ عن جدة.. قصصه ورواياته وكتاباته وأحلامه التي لم تلامس الحبر.. كان يقاتل بنبل وأصالة ابن البلد الإهمال والنسيان والتلاشي، ولم يكن يمتلك غير قلبه وقلمه.. وها هو القلب يخذله، والحصان يغتاله المدى.. والمآذن ثكلى.. ومن هناك يواسي ما تبقى من الرواشين والحارات الحميمة..؟ من هناك ليكمل قصة (الخواجة ويني)، ورواية (مقام حجاز) وما أبدى أبدًا لن يكتب الناس يموتون كل يوم.. لكن نفتقد الأقرب للروح وللمكان ولضفة القلب اليسرى.. نفتقد ونتساءل: أمازال الدور بعيدًا عنا، ولا أحد يمتلك الأجابة؟ غدًا سأعبر حارات جدة.. وحتمًا سأجد ما تبقى هناك.. وسأجد مركاز العمدة العتيق.. لكن العمدة لن يكون هناك.. لقد غادر محمّد.