الحديث عن “الصحوة” ذي شجون، ومراجعتها لتقييمها فتقويمها فريضة شرعية، لأن الصحوة توجب تحقيق جميع مقتضياتها قبل لوازمها؛ لأن المقتضى يعد داخليًا، وأما اللازم فيعد خارجيًا، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوب زور، ولذا فالصحوة تعني الاستيقاظ من الغفوة فضلًا عن النوم العميق، ولكن حينما تكون الصحوة في بعض جوانبها وأفرادها معززة للكسل، ومسوغة للتخلف، ومبررة للغفوات تلو الهفوات، فتكون بذاتها علة مزمنة تحتاج لمن يعالجها بحزم، وأول خطواتها الشجاعة في الاعتراف بواقعها، لأن الأمة بأقطارها الوطنية والقومية تصب في حوض الوحدة الدينية غير المستريبة من الروابط الإنسانية الفطرية، وذلك لأن نوقظ الصحوة بعد جوانب من غفوتها، ونعدلها بعد بعض زللها، وذلك من أجل أن ننهض في شؤون ديننا ودنيانا، وبقوة الدنيا يقوى دين أصحابه، والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف. ومن الواجبات الشرعية التواصل في مسلك دراسة المشكلات العصرية؛ والتوعية في معالجتها؛ من منطلقات سماوية واجتهادات أرضية، مع مراعاة للسنن الكونية والقدرات البشرية، والسعي في رفع الالتباس عن العلاقة بين العلم والدين والحياة، ولن يفلح المعالج ما لم يكن قد عايش الواقع بشدته وحيرته وحتى خلافاته وصراعاته التي يأتي بعد سكرتها المفكرون الربانيون إلى أرض عراكها ليستخرجوا خيراتها ودروسها التي لولاها بعد الله لما اشرأبت الأعناق وصفت الأذهان وتلاقحت الأفهام؛ لتصل بمركب النجاة لآفاق عملية في طريق النهضة. ولكن هل للنائم والمعاند والمكابر والمرائي من نهوض دون أن يستيقظ؟!. فضلًا عمن أنكر نومه أصلًا!. ولكن قبل هذا وذاك؛ يجب أن تزول تمامًا الأنقاض من الفناء الغاص ببقايا التخلف ورواسب الفوضى؛ التي عاشوا فيها أزمنة مديدة، بحقبها الهامدة، والتي حركتها بصعوبة التقاليد البطولية بعنجهية متناقضة، يكاد يكون التراث التقليدي وثنيًا متبقيًا في أعماق الضمير الشعبي الذي شكلته العقود من خرافات تترى بلا حياء ولا ملل. والغفوة ليست مجرد عارض، وإنما نتيجة حتمية للتخلف، ولكي لا يكونوا كذلك فيجب أن يتخلصوا من القابلية للتخلف، فبهذا تشع الأنوار وتنير حلبة الحياة، وحسبنا قول الحق جل وعلا: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وحينئذ سينساب شعاع الفجر الشاحب بين نجوم الشرق، وستشرق شمس المثالية على كفاح الذين استأنفوا بصبح جديد وجهد مديد ناثرين للبذور بعيدًا عن الظل مستحملين ظلم البدايات وجور القربات لتذهب مزارعهم بعيدة عن حقولهم إلى عمق المستقبل، وملتئمًا مع شمل الأبطال وثلة الرجال التي لا تخوض ملاحمها لتسلية أو إشباع لخيالات وهمية ومآلات دونية؛ وإنما بأدوار طموحة لاكتساب المجد وإرضاء العقيدة؛ لتخليص المجتمع من حصار محتكر؛ إلى فسحة ربانية وهداية نبوية بدافع ديني وشرف إنساني، لخدمة الأمة الفاضلة والحياة البهيجة بلا أسطورة ولا أحلام وإنما آمال بدت طلائعها تنبعث عبر فجر جديد، فهل من مزيد؟. ومن عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينًا وتزعجها حينًا آخر، تطربها إذ ترى في منامها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة هوى عنيد؛ وكان الإسلام بما انطوى عليه من قوة روحية ومرجعية سماوية درعًا لهم من أن تحطمهم الأيام أو يذوبوا في بوتقة أصحاب الهوى. ومن مفاخرنا عبر شمس المثالية التي لا تزال تواصل سيرها أن انبلج الفجر في الأفق الذي يدعو فيه المؤذن إلى الفلاح في كل صباح وفي هدأة الليل وفي سبات الأمة الإسلامية العميق، حين انبعث من بلاد الجزيرة العربية صوت ينادي بفجر جديد قائلًا حيّ على الفلاح فكان رجعه في كل مكان لصوت الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- الذي علمنا التجديد وأوقظ الأمة إلى نهضة عظيمة وحياة كريمة، فما أحوجنا لأمثالك اليوم يا محمد!. وإن الكلمة لتساهم إلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، لأنها ذات وقع في ضمير الفرد الحر الذي كرمه الله بالعقل وهداه للحق؛ بعد أن تدخل إلى سويداء القلب فتستقر معانيها فيه لتحوله إلى إنسان ذي مبدأ ورسالة، فالكلمة يطلقها الواحد منا فتشق المحراث في الجموع النائمة لتحيي الموات وتلقي من ورائها بذورًا لفكرة متجددة، إنها فكرة الأولين، والنهوض العقلي والاستقلال الفكري المكرم بنور الوحي وهدي الرسالة، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين، وأصبحت قوية فعالة، بل غيرت ما بأنفس الناس من تقاليد، وبعثتهم إلى أسلوب في الحياة من جديد، فبعثت الحركة في كل مكان وكشفت المجتمعات غطاءها ودفعتها إلى نبذ ما كانت عليه من أوضاع ومناظر، فأنكرت من أمرها ما كانت تستحسن، واتخذت مظاهر جديدة لا تتلاءم مع مظاهرها البالية، حيث بدأ ينساب “الفجر” بين نجوم الليل من “قمة الحرية” ليعلن عن ولادة نهار جديد، دون أن يشفع للنوم شعرٌ رائع أو أدب ماتع، أو مكابر بارع أو متناهض فارع، والله الهادي إلى سواء السبيل. [email protected]