كنا -كمتابعين- لانتفاضة الشعب التونسي، غير مدركين، أو متيقنين من هذه النهاية، التي أحرزها الشعب التونسي بجماهيره الغفيرة، التي تدفقت في الشوارع، تحمل رأسها بين كفيها، قربانًا للحرية! ربما كان الحزن يملؤنا، والخوف على الجموع الغفيرة التي تواجه عنف السلطة بكامل عتادها! ربما لم نكن نريد المزيد من الضحايا والدماء الحرة المُرَاقة على الأرض العربية! ربما كنا واثقين أن النصر مؤكد للأقوى، وبشكل كامل لمَن يملك السوط! لم نكن ندرك أن النار التي التهمت جسد محمد البو عزيزي، ستلتهم حكمًا امتد قرابة ربع قرن من الزمان، صال فيه الفساد والاستبداد وجالا تحت مظلة الديمقراطية، وستار التعددية، ومنظمات المجتمع المدني. ونحن نتابع ما يحدث على أرض تونس “الخضرا” من مواجهات دامية، كان الخوف هاجسنا من أن تخسر تونس زهرة شبابها، وأن تُمنى الجموع الغفيرة بخسارة الحماس، والرغبة في التغيير، لكن النهاية -رغم كل مظاهر الفوضى والغوغائية التي تنقلها عدسات كاميرا الفضائيات- في حقيقتها وواقعيتها، مفاجأة مفرحة، ليس فقط للشعب التونسي، بل لكل الشعوب العربية، التي لابد أنها ابتلعت جرعة كبيرة من إرادة الحياة، وتذوقت طعمها، من الطبخة التونسية، ومن قصيدة أبي القاسم الشابي شاعر تونس (إرادة الحياة) التي يقول مطلعها: إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر وَلا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِر الشعوب، هي القادرة على التغيير، أو الصمت والركون إلى السكون خوفًا، أو جبنًا وضعفًا! فشل عدد من التجارب المماثلة، ربما عزز هذا الإحساس، بالخوف على الجماهير الغفيرة، التي تركض خلف سراب وتظنه ماء. الجماهير التي كانت تمشي خلف شعارات رنانة، سرعان ما تخبو ثم تتحشرج في الحناجر، لمزيد من القهر أو الصمت المقهور! إرادة الشعب هي التي انتصرت، الشعب الذي يمتلك مقومات الإرادة، والإصرار والصمود! أو ظاهرة الجماهير الغفيرة التي يعرفها د. جلال أمين في كتابه (عصر الشعوب الغفيرة) بقوله: (هي ظاهرة وثيقة الصلة بالحِراك الاجتماعي، ولكنها ليست هو بالضبط.. إنها جزئيًّا نتيجة هذا الحراك الاجتماعي وحده) كما أنه يشير إلى أن الزيادة الكبيرة في حجم السكان تدعم ظاهرة الجماهير الغفيرة وتقويها، لكنه يعود ويؤكد على أن (تزايد السكان مهما كان معدله مرتفعًا لا يكفي وحده لإحداث هذه الظاهرة) هو يرى أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية هي التي ساهمت في زيادة (الحجم الفعّال للسكان) بعد ثورة يوليو في مصر مثلاً! لكني أرى أن المجتمع المدني المنظم والفعّال هو الذي استطاع بث الفاعلية في الجماهير الغفيرة، التي حققت هذا النجاح في ثورة تونس! لو أن الزيادة الكبيرة في حجم السكان لها تأثير أو فاعلية، كان الأولى نجاح التجربة الإيرانية في ثورتها على نتيجة الانتخابات في 2009م حيث يبلغ تعداد سكانها 73 مليون نسمة تقريبًا، بينما يبلغ تعداد سكان تونس 10 ملايين نسمة فقط! ظاهرة الجماهير الغفيرة التي خرجت في المظاهرات الدامية في شوارع طهران، افتقدت فعالية المجتمع المدني المنظم بالصورة التي عليها المجتمع المدني التونسي. المجتمع المدني إذن هو البطل الحقيقي في التجربة التونسية؛ فعندما يكون الفرد منتميًا إلى جماعة يستطيع أن ينخرط في نشاطها بسهولة وتصبح الجماهير الغفيرة أفرادًا معدودين يسهل تنظيم حركتها وتوجيه نشاطها لخدمة المجتمع في كل الظروف والأحوال. مع أن شعوبنا العربية، رأت بأم عينيها، سقوط الأوهام التي استهلكت صوتها، وتقرحت حناجرها فداء لها (بالروح والدم نفديك..) بعد تجربة الاستعمار، وفرحة التحرر من قبضة المستعمر دخلت مرة أخرى نفق الأوهام، والحياة على تخوم الأحلام، مستيقنة أنها تعيش حياة سياسية ديمقراطية، عبر تجلياتها الحزبية، والتعددية، وفاعلية المجتمع المدني، وأنها تقبض على رتاج السلطة بين يديها، فهي التي انتخبت، واختارت، وبين أصابعها خيوط السلطة، لكنها دائمًا تستيقظ من الوهم على الحقيقة العارية؛ أنها تعيش وهمًا اسمه (ديمقراطية) فكل مظاهر الديمقراطية أقرب إلى العبث الصبياني؛ فلا انتخابات «حرة»، ولا برلمان «سلطة»، ولا صوت للشعب «مسموع»، ولا مطالب «مجابة» صوت واحد فقط هو «الأعلى» هو صوت السلطة، وعلى الجموع الغفيرة أن تموت بداء (الصمت الرهيب). شعوبنا العربية أدمنت الخديعة، وتصديق الشعارات، وتعشقت الحياة في الوهم! منذ نصبت الشعر ديوانًا لها، والشاعر عرّاب القبيلة، لم تتخلّ عن معشوقها (الوهم)، والحياة على عزف الأحلام. الشاعر فارس القبيلة، يمجدها، ويصد عنها كل ما يهدد كيانها الوجودي، حتى لو ببيت شعر، أو قصيدة هجائية، و.... هو الفارس والعرّاب اللي خرطه الخراط! كان اعتقادنا راسخًا بأن تونس بلغت القمة في الديمقراطية، وكل أمور حياتهم بمسطرة القانون فلا جور ولا فساد ولا ظلم! ربما بهرتني تونس (المدينة) بهرني جمالها ورقي سكانها، بهرتني الحياة العلمية في بيت الحكمة عندما ذهبت مع وزارة الثقافة. كل شيء راقٍ وجميل؛ ربما لأننا نكتفي بمظاهر الأشياء والناس والحياة، لا نحب النفاذ إلى قلب الأشياء والكشف عن ما خفي في حياة الشعوب، ونكتفي بتوصيفات عامة، خيالية ومثالية، على شاكلة: هذا الشعب فنان، هذا الشعب كسلان، والآخر غلبان.. إلى ما لا نهاية من التوصيفات التي لا تشكل غير صور مشوشة أو خيالية في أذهاننا، لأنها تفصلنا عن الحقيقة فصلاً تامًّا وتكرس غفلتنا وتعمق صدمتنا عندما نفتح أعيننا لنرى الحقيقة كما هي لا كما نتصورها! [email protected]