قال أبوعبدالرحمن: لم يتناول العقاد أدنى شمامة من شُبهة ديفيد هيوم، وخرج عن محل النزاع بأمثلة غير واردة على الشبهة؛ فهذا هذر صحفي، وليس علمًا تخصُّصِيًَّا، وإليكم البيان بعدد من الوقفات: الوقفة الأولى: أن أهل العلم التخصصي لا يقابلون الدعوى باستئناف احتجاجات غير مُوَصِّلة خارج محلِّ النزاع؛ وإنما يرجعون أوَّلًا للدعوى نفسها من جهة التصور قبل الحكم فيها. الوقفة الثانية: أن مثال (ديفيد هيوم) خارج محل النزاع -وهذا أول ما يجب أن يناقشه العقاد-؛ لأن المعجزة في نفسها وفي إدلاء مَن يحتج بها لا تأتي استدلالًا على قلب الحقائق المشهودة كجعل 2+2=5؛ وإنما تأتي برهانًا على صدق النبي -عليه السلام-، وكل نبي لا يقول 2+2=5، أو القاهرة شمال إيران، أو الأرنب تطير.. إلخ، وإنما يأتي بقوة غيبية مشهودة الأثر تدل على أن مَن أحدث الله له هذا الإعجاز مرسل من ربه، وقد تكون المعجزة خارقة للناموس كانشقاق القمر، وقد تكون من الناموس المغيَّب بلا خرق سنة كونية كنزول المائدة إجابة لدعاء عيسى بن مريم -عليه السلام-؛ فموسى -عليه السلام- وقلة من معه لا قبل لهم بفرعون وجنوده، وقد توعَّد فرعون بأنه مثبور وليس معه عدة مكافئة، ولكنَّ ذلك ثقة بنصر الذي أرسله سبحانه وتعالى؛ فكانت حادثة الغرق، ولم تكن هذه المعجزة دليلًا على أن 2+2=5، وإنما هي دليل على أن موسى -عليه السلام- مرسل من ربه الذي لا يُتصوَّر وجود الكون بدون الإيمان به بالكمال المطلق والتنزيه المطلق: لا شيء قبله، وهو أول بلا بداية، وليس ذلك مُحالًا في العقل؛ لأنه يتصور الزمان السرمدي بلا بداية.. وهو الآخر لا شيء بعده؛ لأنه الدائم الباقي بلا نهاية، وليس ذلك مُحالًا في العقل؛ لأنه يتصور الزمان السرمدي والأعداد الرياضية كذلك.. والزمن السرمدي والأعداد لا تفعل ولا تخلق، فصح أن ابتداء الزمن مسبوق بأوليته سبحانه، وأن لا نهائية الزمن [أي الزمن غير المتناهي] والأعداد مقنَّنة بقدرته وإرادته سبحانه. والوقفة الثالثة: أن المعجزة لها صفة ولها دلالة؛ فأما الصفة فهي أنها ليست فعل البشر الذي أقدرهم الله عليه من مهارة في الصناعة، أو إنتاج في الفكر والفن، وليست مما يكتسبه البشر بأي حيلة لا بعلمٍ ولا بسحر، فالريح لا يملك البشر مهما أوتوا من علم أن يتفادوا تدميرها لكل شيء إذا سلَّطها الله بزيادة نَفَس فيها.. وناهيك عن كونهم مالكين التصرف فيها.. وليس عند نبي الله سليمان -عليه السلام- وسائل علمية، وليس عنده شيء من وسائل السحر -كرمه الله عن ذلك- تقدر على التصرف في الريح.. ( واتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ومَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ ومَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ ومَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ ويَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ولا يَنفَعُهُمْ ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ولَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة /102].. والريح مسخرة له تجري بأمره حيث أصاب، ودلالتها أنها من قدرة الله وحده جعلها على يد عبده المخلوق سليمان -عليه السلام- شاهدة على أنه رسول من عند ربه، وبرهان حصولها بالمشاهدة لمن عاينها، وبالتواتر والأخبار المعصومة بالنسبة إلى من لم يشاهدها، وبرهان أنها من عند الله تركيبي، وهو أن المتصرِّف في الكون خالق واحد ببراهين التمانع، وبإحالة العقل وجود الكون عن غير خالق واحد له الكمال المطلق، وأن الرسول الكريم الذي جاءت على يده المعجزة لا يملك سببًا اكتسابيًا، وأن كل سبب اكتسابي عاجز عن التصرُّف في الريح وتسخيرها.. وقل مثل ذلك عن بحر يزمجر، وقد أراد فرعون لعنه الله إلجاء موسى -عليه السلام- إليه حتى إذا قرب قوم موسى منه، وظنوا أنهم مدركون: ابتهل موسى -عليه السلام- إلى ربه كما قص الله عنه: (وتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسْرَائِيلَ) (سورة الشعراء /22)؛ فأمره ربُّه بضرب البحر بعصاه، فصار البحر طريقًا يابسًا سهلًا، وكان الماء جبالًا صلدة تحف بالطريق حتى عبر موسى -عليه السلام-، وأعمى الله فرعون وقومه (وهم أهل المعرفة ببلدهم)، فسلكوا الطريق؛ فلما استوعبهم الطريق عادت الجبال بحرًا مزمجرًا، وعاد الطريق اليابس ماء عميقًا؛ فأغرقهم الله؛ فأي علم مكتسب أو سحر ساحر يقدر على ذلك؟.. وقل مثل ذلك عن إحياء عيسى -عليه السلام- الموتى بإذن ربه.. وفي سورة الدخان هل كان عبدالله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وقومه رضي الله عنهم يملكون حيلة اكتسابية تدفع الدخان والقحط عن كفار قريش بمكة؟!.. وكفار قريش يسمعون القرآن، فهل قال أحد منهم هذا غير صحيح، ولم يصبنا دخان، ولم يرتفع عنا بدعائك يا محمد ربك؟!. والوقفة الرابعة: لم نجد في كلمة ديفيد هيوم شيئًا من الوجاهة كما زعم العقاد، وإنما هي كلمة مُغالِطة خارج محل النزاع؛ لأن 2+2=4 حقيقة مشاهدة برهانها تجربة البشر، والمعجزة لا تأتي لعكس ذلك، بل تأتي برهانًا على الواقع المغيِّب، وآثارها برهان مشاهد.. إن 2+2=4 تجربة مشهودة من تجربة البشر، ولا شأن للمعجزة بذلك تأييدًا أو عكسًا، والمعجزة دلالة معيَّنة على أن الرسول يتلقى عن ربه ببرهان ليس من قدرة البشر ولا اكتسابهم؛ فصلته بوحي ربه علمًا وحكمة وقدرة كعلاقة المعجزة بربها قدرة وحكمة وعلمًا، وقد جعلها ربه على يده شاهدة له؛ فهي دليل على شيء معيَّن لا على أشياء مرسلة.. ولو قال قائل: هذه الرمال المثبتة على الأرض عروقًا وجبالًا دليل على أن 2+2=5 لكان رقعيًا قليل الحياء، بل المعجزة دليل على المغيَّب بفعل مغيَّب مشهود المفعول دلالة على صدق إرسال الرسول من القادر على ذلك الإعجاز الذي جعله على يده؛ لأنه جاء بأحكام وأخبار من ربه لم يجعل في قدرته تحصيلها بالاكتساب كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة يونس /16]، وقال تعالى: (ومَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ﴾ [سورة العنكبوت /48].. ومن صفة المعجزة انقطاع كل احتمال على أنها من قدرة البشر واكتسابهم، وسِيَرُ الأنبياء وحياتهم عليهم الصلاة والسلام معجزات في ذاتها.. ولو أبرأ الإنسان الأكمه بأسباب طبية مجربة لكان ذلك اكتسابًا بشريًا بعلم معروف؛ فتحقَّق الشفاء بإذن الله؛ لأنه لا شفاء إلا بإذن الله، وقوانين الطب كسبية تجريبية يعرفها المختصُّون بأسباب حسِّيَّة جعلها الله من علم البشر الكسبية.. وبإيجاز فالمعجزة دلالة على أن الرسول مُرسَل من ربه، ولم يأت لمخالفة الحقائق؛ وإنما جاء لإظهار البراهين على المغيَّب منها، وما يلزم عن تلك البراهين من عصمة شرع الله في أوامره ونواهيه، ووجوب طاعته. والوقفة الخامسة: تمثيل العقاد رحمه الله بتقليد خط الصبي تمثيلٌ خارج محل النزاع من جهتين: أولاهما: أن الخط في حسنه وبدائيته حرفة علمية من الكسب الذي أقدر الله عليه البشر، وهي دليل على أن الله علَّم الإنسان ما لم يعلم، ورَدُّ ذلك إلى الله من ثمار الإيمان بالدين الذي جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بإظهار بيِّناته، ولا علاقة له بدعوى النبوة لأنه كسبي، والمعجزة ذات علاقة واضحة بقول الرسول: (إنه مرسل من ربه)؛ لأنها أظهرت صدقه؛ لكونها ليست من قدرة البشر وكسبهم؛ وإنما هي من قدرة خالق البشر سبحانه وتعالى الذي أرسله. وأخراهما: أن أخبار الرسل عليهم الصلاة والسلام واقع تاريخي محفوظ، وكلها دالة على أن بَعَثهم بعد تجاوزهم سن البلوغ إلى الأشد؛ فعبد الله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بُعث وهو ابن أربعين عامًا، وليس في واقع الرسل بعْثُ واحدٍ منهم عليهم الصلاة والسلام وهو صبي، وإنما جعل الله لبعضهم معجزات ممهدات قبل البعثة كعيسى بن مريم -عليه السلام- قال عنه ربه سبحانه وتعالى قبل البعثة وبعدها: ( إذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وجِيهًا فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ ومِنَ المُقَرَّبِينَ. ويُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وكَهْلًا ومِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي ولَدٌ ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ. ويُعَلِّمُهُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ والتَّوْرَاةَ والإنجِيلَ. ورَسُولًا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللَّهِ وأُبْرِئُ الأَكْمَهَ والأبْرَصَ وأُحْيِي المَوْتَى بِإذْنِ اللَّهِ وأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ ومَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. ومُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ولأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ. إنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [سورة آل عمران / 45-51]، وقوله سبحانه عن يحيى -عليه السلام-: ( يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًا ) (سورة مريم /12)، وكلام عيسى -عليه السلام- في المهد إخبار بما سيكون.. قال ربنا سبحانه وتعالى عن مريم رضي الله عنها: ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ومَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًا. فَأَشَارَتْ إلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًا. قَالَ إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وجَعَلَنِي نَبِيًا. وجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًا. وبَرًا بِوَالِدَتِي ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًا. والسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ ولِدتُّ ويَوْمَ أَمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيًا. ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) (سورة مريم /27-34).. ثم إن في تمثيل العقاد -رحمه الله تعالى- سذاجة؛ لأنه لا ينتفى وجود ماهر يحاكي خطَّ الصبي، كما أن تحدِّي الصبي بتقليد خطه - لو فُرض ذلك - محجوج بتحدي الكبار والصغار له أن يحاكي هو خطوطهم. والوقفة السادسة: كلامه عن الشاعر شكسبير مدفوع بما مر عن الصبي في خطه تمامًا تمامًا. والوقفة السابعة: ما اشترطه العقاد -رحمه الله تعالى- من حسن ورجحان في المعجزة خارج محل النزاع أيضًا؛ لأن ما ذكره العقاد إنما هو عن التفاضل بين قدرات البشر الكسبية التي علَّمهم إياها ربهم وأقدرهم عليها، وليست تدل على شيء آخر.. ومحل النزاع عن المعجزة التي ليست من اكتساب البشر وقدرتهم، وهي دليل على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام مُبلِّغون عن ذي القدرة جل جلاله؛ لأنه أظهر المعجزة على أيديهم. والوقفة الثامنة: أن العقاد -رحمه الله تعالى- معترف في آخر كلامه أن المعجزة من قدرة الله، وبقي عليه ربط علاقتها بصدق الرسول؛ وبهذا يظهر له لو كان حيًا أن ذِكْره الصبيَّ في خطه، وشكسبيرَ في شعره غير وارد في محل النزاع؛ فذكرهما عبث.. ويظهر له أيضًا أن المراد نفيُ مغالطةِ ديفيد هيوم بنفي علاقة المعجزة بالحقيقة المشهودة مثل 2+2= 4 لا 5، وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان.