كان قد جهّز كفنه قبل شروعه في أداء شعيرة الحج، وعندما حلّ موعد السفر لبيت الله الحرام أخذ كفنه معه؛ فلقد كان كيانه كله ممتلئًا بإحساس أنه لن يعود، وأنه سيدفن هناك، ولما أوشك الحج على الانتهاء أيقن أن موته مؤجل، فقام بغسل كفنه في ماء زمزم ونشره في الحرم ليجف، ثم طواه وحمله راجعًا ليكفّن به في مصر متى ما حانت ساعته التى كان يستشعرها قريبة جدًّا. بهذا اليقين كان ينتظر الموت. حانت ساعة الشاعر محمد عفيفي مطر الذى داهمه المرض في كبده مثل غيره من المبدعين المصريين: وليد منير، محمد الحسيني، نعمات البحيري، ويوسف أبوريه. فعلى سرير بمستشفى منوف العام صعدت روح “مطر” إلى بارئها، أما جسده فقد واراه تراب الأرض في وضح النهار -وليس في العتمة- كوصيته لأحبائه من أمثاله من الشعراء الفقراء الذين لا سلطة لهم ولا شهرة. محمد عفيفي مطر، الطائر المغرد خارج السرب، المناهض دومًا للخطاب الإعلامي السائد، المترفّع عن إقامة علاقة ما بالسلطة الرسمية في مصر، وعمّا يمكن أن تغدقه السلطة عليه من مكسب مادي مقابل دخوله في حظيرتها.. هل دفع الثمن الفادح منذ أن اختار بإرادته الحرة أن يبتعد عن أجهزة الدولة المصرية وإعلامها، وألا يكون من كتبة السلطة متخذًا موقف الاستقلال عن السلطة؟ نعم، كان الثمن الذي دفعه الشاعر محمد عفيفي مطر فادحًا؛ فقد كان دائمًا غير مرحب به وبقصيدته، وآخر مظهر من مظاهر عدم الترحيب به تجلى في تجاهل دعوته في احتفالية افتتاح بيت الشعر في القاهرة، الأمر الذى جعله يبتسم وهو يهمس لأحبائه من الشعراء الفقراء الذين لا سلطة لهم ولا شهرة، قائلًا: “تركت لهم البيت ورضيت بالشعر”. بين مطرقة السلطة الغليظة وسندان التجاهل الأعمى عاش الشاعر محمد عفيفي مطر وقلبه معلّق بين مخالب طائر جارح محموم بالتحليق في الأعالي، يكشف في قصيدته ما ترفض رؤيته النخبة الملتفة حول السلطة والمرددة أطروحاتها. ورغم قسوة العيش بين مطرقة السلطة الغليظة وسندان التجاهل الأعمى إلاّ أن الشاعر محمد عفيفي مطر كان يركض في المشهد الشعري العربي كجواد برّي جامح يطرح أسئلته الكبيرة في كل اتجاه. محمد عفيفي مطر الغائب دومًا عن منصّات المهرجانات والاحتفالات والتكريمات، كان يصف نفسه بقوله: “أنا الشاعر الفقير الذي لا يضر ولا ينفع، والذي لا سلطة له ولا شهرة”، والذي كان الشعر وحده هو سبيله وغايته، وكانت روح الأمة تتجول في قصيدته.. ما أجملك أيها الشاعر وأنت تتوزّع في أشعار كل الأجيال التالية لجيلك، وأنت تترك مشروعك الشعرى قنديلًا ساطعًا في سماء الشعرية العربية. محمد عفيفي مطر، ما أجملك وقد تركت لنا دواوين شعر نقابل فيها، على حد قول الناقد محمد عبدالمطلب، العالم كله، في شخوصه المقدسة وغير المقدسة، في فلاسفته ومفكريه، في شعرائه وفنانيه، في زعمائه وطغاته، في سحرته ومخادعيه، في مناضليه ومتخاذليه.. ما أجملك أيها الشاعر والإنسانية كلها حاضرة في شعرك، حاضرة بقصائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها وتاريخها. لا عيب في ألا تمنح قصيدتك أيها الشاعر محمد عفيفي مطر نفسها بسهولة للمتلقي، كما لا عيب في أن يمتلك قارئ قصيدتك قدرًا من الثقافة موازيًا لثقافتك حتى تمنحه قصيدتك نفسها. ما أجمل الشاعر الذي يقدّم لمثقفي وطنه وأمته صيغة عبقرية لعلاقة المثقف بالسلطة، تلك العلاقة التي تكاد تقترب من القانون الذي حكم علاقة المثقف المصري بالسلطة المصرية منذ العصر الفرعوني وحتى الآن. اسمح لنا أيها الراحل أن نسرد لمن سيأتي من الأجيال نوافذ مشروعك الشعري على فضاء الإبداع، وقد خصصتهم قبل ذلك بقصيدتك “حجر الأجيال”، منوّهين للعناوين ليبحثوا هم عن المحتوى، فليقرأ الجميع: احتفاليات المومياء المتوحشة فاصلة إيقاعات النمل رباعية الفرح أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت يتحدث الطمي والنهر يلبس الأقنعة شهادة البكاء في زمن الضحك كتاب الأرض والدم الجوع والقمر ملامح من الوجه الإقليديسي من دفتر الصمت من مجمرة البدايات ثم ليرجعوا إلى “حجر الأجيال” ففيها: يا حجرًا أعرفهُ مذْ كنتُ صغيرًا ألهو فوقَ العتبة. وأدقُّ عليكَ نواةَ المشمشِ والخروبْ في المدخلِ.. كنتَ تنامُ عميقًا.. لا توقظكَ الشمسُ ولا هَرْوَلةُ الأقدامْ. كنَّا في شمسِ طفولتنا وصبانا نصطادُ فراشَ الأحلامْ وأنا أسألُ صَمْتَكَ: هل تَتَفَصَّدُ ملحًا -مثلي- أمْ تنفصَّدُ عَرَقًا من رملٍ أمْ سوفَ تشيخُ فتنثركَ الأيامْ فى طرقِ السعي؟! وهل صمتُكَ دمعةُ حزنٍ مكْنونةْ أم زفرةُ يأسٍ أم بهجةُ حلمٍ يتوقَّدُ في أغنيةِ الصمتِ المجنونةْ؟! كنَّا فى طرقِ السعي نغنّي للعدلِ وللحريةِ ونفجرُّ في ضَرَباتِ القلبِ بروقًا خُضْرًا *** تَسْطَعُ فى كيْنُونتنا السرِّية فترانا الأرضُ بشارةً فجرٍ يطلعُ من تاريخِ الظلمة. يا حجرًا أعرفُه.. هل كنتَ الموسيقى المخبوءةَ في شعرِ الشعراءْ أم كنتَ نداءً كونيًّا يَصَّاعدُ من صمتِ الشهداء؟! أزْمنَةٌ مرّتْ.. كانت تنثرُ فضَّتَها ورمادَ كهولتها فى الشِّعْرِ وَوَهَنِ الخطوةِ والجسدِ المهزومْ *** وأنا أسألُ صمتَكَ: هل صرختُكَ الملساءُ الحُبْلى تحملها عرباتُ خرابٍ مندفعةْ ينقلها بنَّاءون لصوصٌ من أعتابِ البيتِ لبناءِ السجنِ وتَعْليةِ الأسوارْ ؟! أم هذي الصرخةْ فجرٌ فَضَّاحٌ مكتومْ سيُشعْشِعُ حينَ يدقُ الولدُ الآتي -من ظلماتِ الغيبِ- نواةَ المشمشِ والخروبْ؟!