في كتاب"النّصح والتّبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين" وتحديدًا في الباب الثّالث المعنون ب"ولا تجسّسوا" يذكر الكتاب تعريفًا جليًا للتّجسّس نقلاً عن الألوسي بالقول: "هو البحث عمّا هو مخبّأ من أحوال النّاس، وهو من الجسّ أي اللّمس لمعرفة حقيقة المَلْمس". والمنكر حرامٌ؛ والتّجسّس بحثاً عنه حرامٌ أيضاً؛ ومن هنا فلا ينبغي الوقوع في محرّم مقطوع به عند صاحبه وهو التّجسّس للبحث عن محرّم مظنون قد يكون موجودًا وقد لا يكون. قال الحقّ سبحانه: ".. ولا تجسّسوا". وقال رسوله الكريم عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم:" إيّاكم والظنّ، فإنَّ الظنّ أكذب الحديث؛ ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا.." ويقول صلّى الله عليه وسلّم:" يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين, ولا تتّبعوا عوراتهم..". قال رجلٌ لعمر رضي الله عنه: "إنَّ فلانًا لا يصحو، لا يفيق من الخمر؛ فقال: انظر إلى السّاعة التي يضع فيها شرابه فآتني.. فأتاه، فقال قد وضع شرابه فانطلقا حتّى استأذن عليه فعزلَ شَرَابَه ثمّ دخلا؛ فقال عمر: " والله إنّي لأجد رِيحَ الشّراب" فقال: "يا ابن الخطاب وأنت بهذا ألمْ ينْهك الله عن التّجسس فعرفها عمر فخرج وتركه". نعود إلى الكتاب المشار أعلاه حيث الدّعوة إلى ضرورة تجنّب التّجسّس للمحتسب على اعتباره حامل رسالة أمْرٍ بمعروف، ونهي عن منكر. يقول صاحب كتاب "إحياء علوم الدين" الشهير أبو حامد الغزالي:"شرط الحسبة أن يكون المنكر ظاهراً للمحتسب بغير تجسّس". لا حظوا (بغير تجسس!!". ويسوق الإمام الغزالي في كتابه نماذج للتّجسّس المذموم؛ إذ يقول:" فلا ينبغي أن يسترق السّمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمسّ ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبره بما في داره". يقول القرطبي:"خذوا ما ظهر ولا تتّبعوا عورات المسلمين". تأملوا: ما ظهر؛ وليس ما لم يظهر!!. وعطفًا على ذلك يشير الأستاذ محمد توفيق في كتابه "فقه تغيّير المنكر" إلى ما قال به الماوردي: " ليس للمحتسب أن يبحث عمّا لم يظهر من المحرمات؛ فإنْ غلب على الظّن استسوار قوم بها لإمارة وآثار ظهرت، فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون في ذلك انتهاك حرمة يفوت استدراكها؛ مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنَّ رجلاً خلا برجلٍ ليقتله.. فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجّسس، ويقدم على الكشف والبحث حذرًا من فوات ما لا يُستدرك... أمّا الضّرب الثّاني: ما يقصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التّجسّس عليه، ولا كشف الأستار عنه؛ فإنْ سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكره خارج الدار، ولم يهجم عليها بالدخول؛ لأنَّ المنكر ظاهر فليس عليه أن يكشف عن الباطن". ويخلص الأستاذ محمد توفيق إلى أنَّ عموم قوله تعالى:" ولا تجسسوا"، وقوله صلّى الله عليه وسلّم" ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا.."؛ إنّما هو عموم نهي عن التّجسّس مخصص بما كان من المنكرات التي أثرها فادحًا ومقوضًا لهيبة الأمّة وعزّتها وسلامتها بحيث يكون ذلك المنكر أعظم جرمًا من التّجسّس". وقصر القول: إنَّ التّجسّس منهيّ عنه في المنكرات لأهل الحسبة وغيرهم ذات الآثار الفرديّة التي لا يتعدّى أثرها الفادح إلى كثير من الآخرين، أمّا ما كان من المنكر مبيرًا ماحقًا عزة الأمّة وقوتها؛ كإشاعة الفتن، واستراق أسرار الدّولة وأخبارها والتّآمر على إفساد اقتصادها؛ فذلك ما يجب اتخاذ السبل النّاجعة لمنعها وتغييرها قبل وقوعها.