لم تزل “الحساسية” و”خوف الاقتراب” من الثقافة اليهودية والإسرائيلية لغة أو إنتاجًا تمثّل هاجسًا في الساحة العربية ماثلة وحاضرة، برغم بعض المحاولات التي تبرز بين الفينة والأخرى والتي تحاول الخروج من هذا “الطوق” وتحمّل تبعاته، وقد تجلّى ذلك في الأمسية الشعرية التي نظمتها مكتبة “حنين” بالقاهرة واستضافت فيها الشاعر اللبناني شربل داغر لمناقشة وتوقيع المختارات الشعرية “وليمة قمر” الصادرة عن هيئة قصور الثقافة المصرية؛ حيث اختلف موقف داغر ما بين الوطنية والشاعرية حيال سؤال وجه إلىه خلال الأمسية حول مدى تقبله لترجمة أعماله إلى اللغة العبرية؛ ليجيب بقوله: (كشاعر أوافق على الترجمة، ولا تغضبني لأنها مسألة رضي بها شعراء فلسطينيون من قبل، وكأي شاعر يرغب في ترجمة أعماله إلى لغات متعددة، عن نفسي إن كنت أعرف اللغة العبرية لكنت ترجمت منها، ولكن بصفتى الوطنية لأني كمواطن لبناني توجد بين بلادي وإسرائيل عداوة ولا توجد معاهدة سلام سوى اتفاق الهدنة، لذلك هناك عوائق قانونية أمام التنازل عن حقوق الملكية الفكرية الخاصة بأعمالي). وليمة قمر وحول مجموعته المحتفى بها “وليمة قمر” أضاف داغر: سعيد أن تكون الأمسية عن المختارات التى صدرت في مصر، لأنى نادرًا ما أقرأ شعري في مؤتمرات أو ندوات، لأنه ليس منبريًّا وإنما به شيء من التأمل يصلح للقراءة وللجلسات الحميمة.. ولا أخفيكم سرًا أن صديقي الراحل محمود درويش هو من دفعنى لإصدار أولي مجموعاتى الشعرية حينما قال لي “يا صديقي هذا لا يجوز أنت معروف كشاعر ولم تصدر بعد أي مجموعة شعرية” وبعدها أصدرت ديواني الأول عام 1981 بعد تردد من الشعر ولذلك صدرت الديوان بإهداء “إلى شربل حتى لا يصير شاعرًا” لأني خلال حياتي تحدوني رغبة في الشعر وأخاف منه في الوقت نفسه، لذلك توقّفت عن كتابة الشعر لما يقرب من 15 عامًا وبعدها كتبت رواية “وصية هابيل”، وأعتقد أن علاقتي بالرواية أكثر راحة مما هي في الشعر الذي تسقط فيه كل الحسابات، فهناك مواجهة مباشرة مع النفس التي تختفي في الرواية بتعدد شخصياتها مما يخفّف من حدة المواجهة ولا يستطيع القارئ أن يمسك بسيرة الكاتب بين الشخصيات، لأن الأساس في الرواية هو السرد وبه صعوبة في الإفصاح وتعبر جزئيًا عن بعض سيرتي في الطفولة. قصيدة الأصوات المتعددة وأشار شربل إلى أنه يحاول الخروج على النسق المعروف في الشعر من الصوت الواحد، من خلال تجربة بدأها في قصيدة “جثة شهية” قائلاً: أحاول أن أكتب شعرًا لا يشبه الشعر، بتعدد الأصوات داخل القصيدة الواحدة لرغبتي في التخفيف من سطوة الأنا المتحكمة في القصيدة العربية الحديثة، وفي هذا النوع أستطيع أن أقول الشيء وعكسه، لأننا كبشر كذلك والشعراء أيضًا. ويواصل داغر مضيفًا: استمررت في تجربة الأصوات المتعددة في مجموعتى قبل الأخيرة “ترانزيت”، حيث ذهبت في التجربة إلى أقصاها، والمجموعة كلها نص واحد على أساس حواري، وأردت من ذلك التعبير عن نفسي وأن أنقل للقارئ أصوات متعددة وأتحول في القصيدة إلى ما يشبه الميكروفون الناقل للحديث المثار حوله، وقصدت أن تكون تعبيرًا عن تداخل مجموعة من الفنون في نص واحد، فالحوار يغلب عليها ومقاطع من السرد تقترب من الشكل الروائي، أيضًا توجد فنون تلتقي مع فنون الكتابة مثل الحاسب الآلي والهاتف المحمول. سطو علني وخلال الأمسية ظهر جانب المترجم أكثر في حديث شربل داغر باعتباره أستاذًا للترجمة الأدبية بقوله: “الترجمة صعبة في حد ذاتها وترجمة الشعر هي الأصعب دائمًا لأنه عملية تبديل لما هي عليه اللغة المستعملة، فاللغات تتلاقى لكنها لا تتطابق، ولهذا خيانة المترجم مطروحة لأنها من طبيعة عملية الترجمة وليست مقصودة في حد ذاتها. وعن نفسي أترجم نوعين من الشعر الأول أردت فيه تعريف القارئ العربي بشعراء نجهلهم فترجمت قصائد لشعراء إفريقيا غير المعروفين في بلادنا، والثاني ترجمت لشعراء أحبهم، أو قصائد كنت أتمنى أن تكون قصائدي وكانت وسيلتي الوحيدة هي السطو العلني عليها من خلال الترجمة التي تعد تمرينًا لغويًّا وشعريًّا في حد ذاته، عبر الولوج إلى بناء القصيدة والإلمام التام بجوانبها للتعرف على مهارة الشاعر وفنونه في التركيب، فهي تمرين يستفيد منه المترجم فكيف إذا كان شاعرًا. المترجم الشاعر وردًا على سؤال عن حتميه أن يكون مترجم الشعر في الأصل شاعرًا يقول داغر: “ليس بالضرورة. فنحن لا نستطيع أن نمنع الطبيب مثلا أن يكون شاعرًا أو مترجمًا لأدب شكسبير مثلاً، ولكني أعتقد في ترجمة الشعر من الأفضل أن يكون المترجم شاعرًا، ومن يعود لبعض التجارب في الثقافات المختلفة يجد أن من ترجم أشعار إدجار ألان بو إلى الفرنسية هو بودلير، ولاحظت أن المترجمين القديرين للشعر هم في الأساس شعراء، ولكن ليس كل شاعر مترجم جيد بالضرورة لأن الترجمة تحتاج إلى مهارات وخبرات قد لا يملكها أي شاعر فهناك شعراء لا يستطيعون أن يكونوا إلا أنفسهم فقط.