سقط جدار برلين ومعه سقط الاتحاد السوفيتي، ووجد العالم نفسه أمام قطب عالمي واحد هو الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبعد فترة من الانفراد بعدة قرارات أدت إلى المزيد من التعقيدات في أكثر من منطقة في العالم، قرر الأمريكيون مراجعة دورهم ومسؤولياتهم. خاصة وأن عملاقاً اقتصادياً جديداً أخذ في البروز على الساحة العالمية، مُهدِّداً التفوق الاقتصادي الأمريكي. كما أن هذا العملاق الجديد بدأ في استعراض عضلاته العسكرية في آسيا وإن بشكلٍ محسوب. وسارع المفكرون والسياسيون في كل من أمريكا وأوروبا إلى إعادة دراسة النظام العالمي الذي صنعوه بعد الحرب العالمية الثانية، ومدى احتمال صموده في وجه المتغيرات الجديدة، أكان صعود الصين القوي، أو العودة الجديدة لروسيا إلى الساحة الدولية، خاصة في المناطق المحيطة بها (دول أوروبا الشرقية) والشرق الأوسط، واحتمالات بقاء أمريكا وأوروبا على رأس هذا النظام. انقسم الأمريكيون فيما بينهم وكذلك حدث للأوروبيين. وأخذ نفوذ النظام العالمي الليبرالي الذي أقاموه ينحسر. فباراك أوباما، من أقصى اليسار الأمريكي، أخذ يُهرول منسحباً من معظم العالم ويقود من الخلف أي عمليات عسكرية يجد بلاده مضطرة للمساهمة فيها، وحجته في ذلك الإعداد لمواجهة الصين في آسيا. واستغل ثعلب موسكو، الرئيس بوتين، فزع أوباما من الشرق الأوسط ودخل بقوة لملء ما اعتقد أنه فراغ لتحقيق مصالحه، والنكاية بالأمريكيين الذين سعوا لإدخال بلده تحت مظلة النظام العالمي الخاص بهم. وجاء خلف أوباما، الرئيس الجديد دونالد ترمب من أقصى اليمين الأمريكي، إلى البيت الأبيض، رافعاً شعار إسقاط النظام العالمي الليبرالي، واتخذ خطوات كبيرة لتحقيق ذلك، وأقام خلال فترة قصيرة شبكة داخلية من القضاة وأجهزة الأمن داخل أمريكا تضمن للأمريكي غير الليبرالي تحقيق ما يريده من أمريكا غير الليبرالية. وإن كان ذلك سيتم تدريجياً وبحسب الدستور والنظام القضائي الأمريكي. ولاشك أن البيت الأبيض الأمريكي الحالي لا يرغب في إسقاط ما يعتقد أنه هيمنة أمريكية على العالم حققها لها النظام العالمي الليبرالي الذي أقيم بعد الحرب العالمية الثانية. وإنما يسعى لتخليص أمريكا من ليبرالية أصيبت بالتطرف، وسعت لدخول كل بيت أمريكي، وكل عاصمة من عواصم العالم، لتفرض على الجميع احترام كل شكل من أشكال الليبرالية المتطرفة، بما في ذلك الشذوذ الجنسي، بدءاً من رياض الأطفال، وانتهاءً بدور العجزة، ومنحهم حقوقاً وامتيازات خاصة. وتغيير الدساتير والأنظمة في أمريكا ودول العالم لتحقيق هذه المتغيرات. وكل ذلك تحت مظلة حماية حقوق الإنسان، بما فيها حقوق الأقليات. واستهدف النظام الليبرالي العالمي تغيير أنظمة الحكم في كل العالم لتتطابق مع النظام الليبرالي الأمريكي. ويبدو أنهم يأخذون، عبر وسائل الإعلام، على الإدارة الأمريكية الحالية أنها لا تسعى لتغيير الأنظمة في دول العالم الأخرى، وخاصةً الشرق الأوسط، لتحقيق الأحلام الليبرالية الأمريكية والأوروبية. كل هذه التطورات، عودة روسيا إلى الشرق الأوسط وأوروبا، وصعود الصين إلى قوة اقتصادية عالمية ضخمة بما ينعكس على قوتها العسكرية الصاعدة ونفوذها العالمي، وتمزق بنية النظام العالمي الليبرالي من الداخل، يؤدي إلى فراغات سياسية وعسكرية في مناطق مختلفة من العالم، مما يُشجِّع بعض المغامرين للإقدام على أفعال ما كانوا سيُقدمون عليها لو كانت هناك خشية من نظام عالمي يردعهم. وفي نفس الوقت فإن هذه فرصة لدول إقليمية تتشابه وتتشابك مصالحها في دعم وتأسيس قوى رادعة، تستطيع بها مواجهة تحديات ما يراه المغامرون فراغاً، والإعداد ليكون لها دور فاعل في النظام العالمي القادم متى ما قام.. إنها فرصة لمراجعة دورنا في المنطقة، وعلاقاتنا الواسعة مع دول العالم، لضمان مستقبل أفضل لمنطقتنا.