النظام العالمي الذي أقامه المنتصرون (بدون الإتحاد السوفيتي) بعد الحرب العالمية الثانية يواجه المخاطر من داخله وخارجه. ولم يتسبب دونالد ترمب، الرئيس الأميركي الحالي، بأسلوبه الفج الذي يفتقد الدبلوماسية بكل معانيها، بتعريض هذا النظام العالمي الليبرالي للمخاطر، بل كان النظام يتعرض للهجوم والأخطار قبل أن يستولي المحافظون الأميركيون على البيت الأبيض، إلا أن أسلوب ترمب في إدارة الدولة الأميركية سلط الضوء على ما يعانيه النظام من أمراض وأوجاع. بعض المدافعين عن النظام يقولون إنه باقٍ وصامد، وما على المؤمنين به سوى الانتظار. وفي خطابه أمام مؤتمر ميونيخ للأمن بداية العام الحالي، قال جو بيدن، نائب الرئيس الأميركي السابق ومرشح للرئاسة ضمن قائمة الحزب الديموقراطي الطويلة، قال لمستمعيه من الساسة الأوربيين، والدبلوماسيين والقادة العسكريين: «نحن عائدون»، مبشراً القادة الذين ضاقوا ذرعاً بما يفعله دونالد ترمب بهم، وابتهجوا لسماع بيدن يبشرهم بالعودة الى ما كان، معطياً الانطباع بأن أي إدارة أميركية قادمة بعد إدارة الحزب الجمهوري الحالية ستعيد الود المفقود بين أوربا وواشنطن. وهو أمر يرى كثير من المراقبين السياسيين أنه من الصعب تحققه، مشيرين الى أن الخلاف فيما بين أوربا وأميركا تصاعد بشكل كبير وأن الذي أعلن تحول أميركا الى الشرق، الصين وبحرها ومحيطها، كان باراك أوباما، الرئيس الليبرالي القادم من صفوف الحزب الديموقراطي. النظام الليبرالي توسع بشكل دراماتيكي بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، وتمكنت الدول المكونة لهذا النظام من توسيع نفوذها بشكل كبير. واستطاعت توسيع شبكة (ديموقراطيتها) بأساليب متعددة أبرزها ما اتفقت على تسميته (الربيع) أكان ربيع براغ (أول من أطلق عليه هذا المسمى) أوما تلي ذلك. وانتشر نموذج (الديموقراطية) الليبرالية هذه في آسيا وأفريقيا بالإضافة الى أوربا الشرقية. إلا أن نجاح القيادة الروسية في إعادة بناء الاتحاد الروسي وذكاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في استغلال أخطاء وتراجعات النظام الليبرالي، خاصة خلال حكم أوباما لأميركا، بذكاء بتوسيع النفوذ الروسي في أوربا وأفريقيا والشرق الأوسط بالإضافة الى صعود النموذج الصيني الاقتصادي وانتشاره على مساحة واسعة من العالم ونمو القوة العسكرية للصين، كل ذلك كشف مدى ضعف النظام الليبرالي القائم وعدم قدرته على مواجهة التحديات الجديدة ليعود جميع الليبراليين العالميين الى كتبهم ومراكز دراساتهم للبحث عن أفضل السبل للبقاء في مقدمة المتنافسين على الهيمنة العالمية. وهناك دراسات تمت ودراسات تجري حول هذا الأمر إلا أن الحالمين بنظام عالمي معدل يواصل الهيمنة الأميركية، وربما الأوربية، على العالم سيجدون أنه من الضروري معالجة المخاطر الداخلية أولاً لهذا النظام والمتمثلة بعدم اقتناع جزء من الرأي العام الأوربي والأميركي بما تمثله القيم التي يبشر بها النظام أكانت نظام التجارة الحرة أو السماح بالهجرة أو دعوات وأنظمة مساواة المثليين وخشية المواطن الأبيض في أوربا وأميركا من إمكان هيمنة (الألوان) الأخرى على البلاد عبر الهجرة. وهو الأمر الذي أدى الى انتشار شعبية الدعوات القومية والشعبوية وما شابهها وتخلي جزء من طبقة العمال البيض في هذه الدول عن أحزاب اليسار وتبني أحزاب اليمين بمختلف أشكالها. ولن يكون كافياً أن يهاجم الساسة الدعوات القومية مثلما فعل رئيس ألمانيا فرانك شينماير، في خطاب له أمام الدبلوماسيين الألمان في يناير من هذا العام بالقول إن «القومية هي سم أيدولوجي». أو ما قاله الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في خطاب له بشهر نوفمبر الماضي من أن: «القومية هي خيانة للوطنية». لأن بعض الناخبين في بلدانهم يشعرون بأن الذي يرفع الشعارات التي يهاجمها الليبراليون هو وعد بحمايتهم من المهاجرين والمثليين والملونين. وهي قضايا أكثر تعقيداً من أن يتم الإستخفاف بها .