هل دونالد ترمب، الرئيس الأمريكي، ظاهرة عابرة في أُفق السياسات الداخلية والخارجية الأمريكية؟.. أم أنه يُمثِّل محاولة لنقل أمريكا إلى مرحلةٍ جديدة ومختلفة في سياساتها، وتصرفاتها، وقيمها؟.. وسيكون لما تقوم به إدارته تأثيرٌ كبير على مستقبل مسار السياسة الأمريكية؟.. والأهم من كل ذلك سؤال عمَّا تسعى إليه إدارة ترمب.. وما هي أمريكا الجديدة التي تسعى هذه الإدارة لصياغتها؟.. صحيح أن هذه تساؤلات، ولكن مِن المناسب عدم الإجابة عليها الآن، فهناك تفاعلات وردود أفعال في أمريكا وخارجها ستُؤثِّر على مسار اتجاهات مسعى التغيير الذي يقوم به الفريق الذي جاء مع ترمب، وأولئك الذين يُؤيّدونه.. ولكن ما يحدث يجب أن يدفعنا للتأمل والدراسة وتوقع السلبيات والإيجابيات والإعداد لها، إن أمكن ذلك. أمريكا تمكَّنت من قيادة العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وأثَّرت قراراتها وتصرفاتها ومؤامراتها على العالم. وتمكَّنت خلال ذلك من إسقاط دولة عدوّها الاتحاد السوفيتي، وتمكَّنت من إحلال نظام آخر محله، فك أسر دول أوربا الشرقية التي كانت جزءًا منه، ودفعها إلى أحضان أوروبا الغربية الحليفة الوثيقة والشريكة لأمريكا، ولولا مجيء بوتين على رأس دولة روسيا الاتحادية، وهي الكيان الذي بقى من الاتحاد السوفيتي، لشاهدنا وضعا دوليا مختلفا. إلا أن دونالد ترمب يسير في طريقٍ مختلف عمَّا سار عليه رؤساء أمريكا السابقون، فأوروبا لم تصبح مهمة بالنسبة له، والكيانات المالية والسياسية والأمنية المشتركة التي بُنيت خلال سنين طويلة فيما بين أمريكا وحلفائها؛ أعلن ترمب نيته في تغييرها، ولا يُعيرها أي أهمية، بل طالب أوروبا بأن تُسدِّد مصاريف القوات الأمريكية المرابطة في قواعد عسكرية في بلدانها. وعندما التقى بمجموعته (السبعة الكبار) في مؤتمرهم الأخير بكندا، عبَّر عن رغبته في أن تكون موسكو، الكبير الثامن فيهم، ودخل في جدالٍ عقيم معهم وافق في نهايته على بيان هزيل، سارع إلى سحب موافقته عليه وهو في الطائرة التي أقلّته إلى سنغافورة للالتقاء بعدو أمريكا، رئيس كوريا الشمالية، واعتبر تصريحات ترودو التي ردَّ بها على تهديدات ترمب لبلاده بالقول: إن كندا لا يمكن الاستهانة بها قائلا: إنها (طعنة في الظهر)، وأطلق مستشار له لعنةً على ترودو قائلا: إنه (سيدخل جهنم) بسبب ذلك. وأخيرا أصر على محاربة المهاجرين إلى أمريكا عبر الحدود مع المكسيك بفصل أطفالهم عنهم وفتح معسكرات للأطفال، معلنا أنه لن يتوقف حتى يقر الكونجرس قانونا للهجرة يتضمن أموالا لمشروعه «بناء جدار فيما بين أمريكاوالمكسيك»، ولولا تدخل ابنته «إيفانكا» لما وافق على إعادة لمّ شمل الأطفال مع أهلهم في معسكرات واحدة. ومن المعروف أن قضية الهجرة هامة بالنسبة لأمريكا، فهي أمة من المهاجرين، وفي عهد الرئيس دونالد ريجان (جمهوري)، تم منح ثلاثة ملايين مهاجر غير شرعي عفوا أدَّى لدمجهم بشكلٍ رسمي في المجتمع الأمريكي الذي يُرحِّب معظمه بالمهاجرين الذين رحَّب بهم الرئيس السابق جورج بوش، عندما كان رئيسا بالقول إنه إذا أمكن للمكسيكيين عبور الحدود فمرحبا بهم «نحن نريدهم». الجماعات المؤيدة لترمب تشمل أكثر الحركات تطرفا في البلاد، أكان الذين يحملون السلاح ويُصرّون على الاحتفاظ به، أو المتشددين دينيا، أو المطالبين بسيادة الجنس الأبيض في البلاد. وبينما نشاهد توسُّعا للصين وروسيا في نشاطهما العسكري والتجاري على رقعة واسعة من العالم، فإن أمريكا «دونالد ترمب» في طريقها لسحب مظلتها العسكرية من أوربا وآسيا ودول حليفة أخرى، بشكلٍ يجعل الأوروبيين واليابان، الحلفاء الرئيسيين مع أمريكا، يُسارعون للبحث عن حلول أخرى لحاجاتهم الأمنية، ويُواجهون في نفس الوقت حربا تجارية أمريكية لم تتضح بعد إلى أين ستصل بالعلاقات الاقتصادية المشتركة لهم معها. من الواضح أن هناك سعيا أمريكيا لإقامة نظام عالمي جديد.. إلا أنه ليس من الواضح إذا كان النظام المستهدف سيُقام على أنقاض النظام الحالي أم أنه سيكون مجرد نظام معدل للقائم؟. وفي نفس الوقت فإن إحداث فراغات بمسيرة إعادة بناء النظام الجديد ستؤدي إلى استغلال أطراف أخرى للفراغ، والسعي لملئه بنفوذها ووجودها. لقد دخل العالم مسارا جديدا في علاقات ومصالح الدول ببعضها البعض، ويمكن للجميع الاستفادة منها، إن أحسنوا قراءة ما يمر به العالم هذه الأيام.