عندما يُقال إن فلاناً من الناس متعصب، فإن هذا حتماً يعني أن خللاً في التوازن الفكري والنفسي قد طرأ عليه، بل وأحكم قبضته الموجعة لدرجة بات معها وضوح الرؤية غائباً عن الفكر فضلاً عن السلوك. والتعصب كما يفهم الجميع؛ هو المبالغة والإفراط في التأثر، وما ينتج عن ذلك من فرض للقناعات المتمخضة عن هذا الأمر، بصيغة تحيد عن المثالية، وتئد فرضية صحة المعلومة من عدمها، وفق اعتداد بالرأي الواحد وإن كان هناك ما يدحض صحته، أو ينال من مصداقيته عطفاً على ضعف الاستقاء ونحو ذلك، في حين تجهز تزكية النفس على مبدأ التثبت وتحري الدقة بهذا الصدد، بل وحتى إخضاع هذا الأمر للمناقشة والمداولة أي أنه أقفل المداخل فيما تكون المخارج مشرعة، مع العلم أن الرؤية حينما استقرت في الذهن لم تكن توحي بقطعية الثبوت بقدر ما ضيق الأفق حيال قبول ما يفندها أو يضعف من مصداقيتها أو حتى مناقشتها، وهذه الإشكالية في الواقع مرتبطة بالجانب النفسي إذ تكمن الصعوبة في التخلي عن هذا النهج غير السليم، والبعيد عن الموضوعية ومدى تضاؤل الجانب المرن إزاء قبول التصحيح لا سيما إذا كانت الفكرة متسمرة بالرأس، ويزيد الطين بلة عامل الوقت، فكلما طالت المدة أو بالأحرى تأخر التصحيح كلما زاد من تقعر المفهوم، مسوغاً هذا التأخير تبرير التشبث بهذا الرأي أو ذاك، وإن كان لا يمت للحقيقة بصلة، وأعطى الحديث القدسي القائل (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) درساً بليغاً في لفظ الشكوك، والاتجاه نحو تحري الدقة، والسعي إلى طريق الحق وبلوغه يتطلب إضاءة تنير السبل نحو هذا البلوغ، ومن ذلك التثبت والتحقيق لكيلا ينحصر عنصر الأمانة في إطار ضيق قد يخل بمستواه، عدا عن إفراغه من محتواه، فإذا كانت الرؤية يشوبها الشك، وتعتريها الريبة، فمن باب أولى إخضاعها للبحث والنقاش وعدم الإمساك بتلابيبها، طالما أنها تفتقر إلى الثبات، فاستقرارها في الذهن على هذه الوضعية الحرجة يستفز الذات إذ لا تلبث أن تلج في أتون المخالفة عطفاً على مصادقة الفكر، مناهضة ومناقضة، للرغبة الصادقة، في تلمس الأطر الصائبة في ظل غياب اختياري للحكمة بهذا الخصوص، ورأس الحكمة مخافة الله، ومخافة الباري، تقتضي حمل الأمانة وأداءها على أكمل وجه، بمعزل عن زيادة مضلة أو نقصان مخل، ولا ريب أن التعصب يسهم في تحوير الهدف ويفرز نتائج عكسية طبقاً لانتفاء الرؤية الموضوعية، فبدلاً من إبراز الجانب الإيجابي على ضوء المصالح المترتبة عليه، يمسي تضييق الخناق حجر عثرة أمام الترغيب به من ناحية، والتنفير منه على نحو يتقاطع مع الاستقاء المتقن لمفهوم التسيير الملهم لشحذ الرغبة، واستشعار المعاني القيمة، ومن ذلك فهم الأبعاد في إطار سياقاتها المتوازنة من حيث اتكاء الرؤية على الجانب الجمالي المتسق مع المفهوم الواضح وانسيابية تمريره من ناحية أخرى (والله جميل يحب الجمال) من هنا فإن القبول سيحاكي الرغبة، منسجماً مع الأحاسيس التواقة إلى إشباع الوجدان بالقيم النبيلة الزاخرة، والقادرة على فرض نفسها، متى ما تهيأت الأساليب اللبقة، يغلفها حسن النية ونبل المقصد بوشاح الإقناع المتدثر بغطاء من السماكة ما يعزز فرص الاقتناع وفقاً لتحري الدقة في الطرح استناداً إلى الأدلة الدامغة والبراهين اللامعة، وهكذا تتبلور المعطيات المنطقية المتمخضة عن اتساع الآفاق بتفعيل تمرين الذات على التداول والمناقشة والتحاور، لا سيما فيما يتعلق بالجوانب غير الثابتة، والمشكوك في مدى صحتها وعدم الزج بالأعراف والتقاليد وإقحامها في هذه الدائرة وإن كانت متوارثة فليس كل موروث يصيب كبد الحقيقة، إذ إن حتمية فصلها وغربلتها ووضعها تحت المجهر باتت ملحة منعاً للتداخل من جهة، ومدى موائمتها لتواكب المتغيرات والمستجدات، وتأصيل الحسن منها، وترك ما عداه قابعاً في زوايا التاريخ المظلمة من جهة أخرى، وإذا كان التعصب الفكري ينوء بالمنغصات المؤرقة، فإن التعصب العرقي أو القبلي لا يقل سوداوية وظلمة في تكريس للاحتقار المقيت حين يجهز التمييز المنفر على قيمة الإنسان المتمثلة في نبذ التفرقة حيث إن الكل سواسية في هذا الجانب. وقد يعتبر البعض التمييز مفخرة يتباهى بها ويستصغر ما دون ذلك، في استعلاء مقيت ونبرة فوقية تكرس الجهل بآفاقه الضيقة وبنمط عدائي فج، والفخر الحقيقي يتمثل في الكرم والجود وحسن الخلق والمآثر الخيرة، غير أن تعرية الترسبات السلبية المتراكمة، تحتمه المسؤولية الأدبية بحس إنساني ينحو إلى التصحيح، وإسقاط المفاهيم الخاطئة، التي ما فتئت تمرر الجهل بصيغه المختلفة. أضف إلى قائمة التعصب الذي أرجو أن لا تقوم له قائمة، التعصب الرياضي، فتجد البعض يبالغ في ميوله نحو فريق معين وتفرز المبالغة بهذا الخصوص آثاراً سلبية، في حين أن العاطفة لا تبرح أن تسلب الأدوار المنوطة بالعقل، عبر منحها الزمام في قياسات غير منضبطة ستؤثر سلباً، فمقدار الفرح في حالة الفوز، سيقابله نفس المقدار في حالة الخسارة، وبالتالي فإن التأزم النفسي سيكون بالمرصاد وما يخلقه من آثار قد تصيب الصحة بشكل مباشر. خلاصة الحديث، إن التعصب معضلة أخلاقية تتكئ على غياب التكافؤ، فيما تكون عناصر الميول والعاطفة والرغبة والتأثر قد حلَّقت بعيداً عن مدار العقل، ومن ثم فإن اختفاءها عن راداره لا يتيح رصد تأثيرها بشكل دقيق، ما ينعكس سلباً على التصرف والسلوك، بل والحالة النفسية، فبات حرياً إعطاء القوس باريها والتحكم في المشاعر من خلال إخضاع المؤثرات لقرارات العقل الفطن وسيادة الحكمة. Hamad [email protected]