في كل عام يتجدد الشوق والبهجة وتخف الأفئدة بين الضلوع لتتنسم الروائح الذكية القادمة من أرض الحرمين، تذكر بأقدس وأطهر الذكريات والرحلات وتنبض قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وتهطل الدموع في اشتياق لرؤية البيت العتيق وأداء مناسك الحج وزيادة مدينة الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلم. وتدوي حناجر ضيوف الرحمن بالتلبية (لبيك اللهم لبيك) وهم قادمون من كل فج عميق بالطائرات والبواخر والسيارات في وحدة إسلامية ووحدة روحية تتجلى في أروع معانيها، وتتكرر كل سنة في ميقات معلوم وعبر مناسك محدودة ومشاعر موحدة. وفي كل لحظة من لحظات الحياة يستعد الغرباء على بعد أوطانهم للرحيل إلى حيث يشعرون بأنه موطنهم.. إلى مكة، موطن الدين، ومهبط الوحي، وفي موعد محدد يبدأ الحنين يدب في قلوب المسلمين إنه الحج يناديهم ليجتمعوا جميعاً في لحظة واحدة، وعلى دين واحد وكلمة واحدة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وثواب الحج الجنة فقد قال- صلى الله عليه وسلم-: (ليس للحجة المبرورة ثوابٌ إلا الجنة) وقال: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). والحجاج في ضمان الله قال سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (هذا البيت دعامة الإسلام فمن خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضموناً على الله إن قبضه أن يدخله الجنة وإن رده بأجر وغنيمة). وفي الأثر قيل للحسن ما الحج المبرور؟ قال: (أن ترجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة). وها نحن نبدأ أولى خطواتنا مع رحلة الأشواق والحنين إلى الأرض الطيبة هذه الأرض التي تروي ذراتها تاريخاً طويلاً زاخراً بصور البطولة وألوان الكفاح والانتصار ومصارع الشهادة في سبيل الحق والمثل الأعلى، وتتردد في أجوائها أصداء بعيدة قريبة لتلك الانطلاقة الروحية القوية التي انشق عنها ضمير الوجود منذ خمسة عشر قرناً من الزمان، فغيرت معالم التاريخ وقفزت بالإنسانية إلى أبعد الآفاق. إن طوفاناً من المشاعر والأحاسيس يحتوي المشتاق، ويملك عليه الروح والقلب، فإذا به يعيش في جو تزدحم فيه صور التاريخ نابضة وتختلط فيه مشاعر التجرد والعبودية وأشواق التلبية والإقبال على الله، إنها نقلة روحية بعيدة تفصل المرء عن حياته تلك التي كان يحياها، وهو يصارع مصاعب الحياة الدنيا والأحياء، وتسمو به إلى حياة جديدة تنفخ في روحه شحنة لا عهد له بها من المشاعر والأحاسيس الفياضة. إنه يستدبر تلك الحياة المضطربة الصاخبة بما فيها من هموم وأعباء وروابط وتقاليد، وقد تجردت نفسه عن ذلك كله كما تجرد جسمه إلا من لباس الإحرام ويستقبل حياة أخرى تتلاشى فيها المعالم وتتبدل متسامية نحو الأفضل والأجمل فيعود الحاج من حجه كيوم ولدته أمه. في ذاكرة أحد الحجاج من مصر عن مكة المكان والمكانة يقول فيها: عندما انطلقت بنا السيارات صوب مكةالمكرمة، فإننا نشعر أنها لا تطوي الأرض فقط، ولكن تطوي السنين والحقب والأجيال، وتحملنا في رحلة عبر تاريخ من الأحداث الجسام والمعارك الخالدة التي انتهت إلى نصر الله وتأييده ليسطع على الكون نور الإسلام والسلام. وكما يصطفي الله سبحانه وتعالى من الناس رسلاً وأنبياء يرسلهم إلى البشر برسالاته، ويخصهم بالوحي لتبليغه لعباده، كذلك فإنه يختص من البلاد كذلك ما يجعلها كريمة بين البلاد عزيزة على الناس، مكةالمكرمة كرمها الله وأعزها، ولكن بماذا؟ لقد شرفت مكة بأغلى ما في الوجود، وتقدست بأطهر ما على الأرض (الكعبة الشريفة) ويخبرنا القرآن الكريم وكتب السيرة أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - قد اتخذها مقراً ومقاماً يقول الله تعالى في كتابه العزيز {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(1227)} سورة البقرة. لقد مرت بنا الساعات خفيفة مسرعة إن صح أن الزمن يمكن أن يقاس، ونحن في طريقنا إلى بيت الله الحرام، ويشاء المولى عز وجل أن يكون دخولنا مكة مع تردد أذان الفجر ينطلق من مآذن الحرم فيخطف القلوب والوجدان. (الله أكبر، الله أكبر)، هذا هو الحرم المقدس تلألأ بالأنوار، وهذه الكعبة بأستارها السوداء قد اصطف الناس حولها من كل اتجاه خشوعاً يرتلون آيات الله ويطوفون ويرددون بلغات مختلفة التسابيح والدعاء، وما تزال هذه الحلقات تتسع وتنداح مع الفجر في مسراه حتى تشمل في اتجاهها نحو الكعبة جميع أقطار الأرض. ويكفي أنها (الكعبة) حديث القلب والروح والوجدان، فهي أشرف الأمكنة قاطبة، وأقدس البناء قطعاً، إنها بيت الله الحرام. يقول الشاعر: ما أحسن العيش بأم القرى ففي ظلال البيت يشفى العليل يا مكة الخير ودار التقى ومهبط الوحي وذكرى الرسول لا زلتِ بالأخبار معمورة يغشاك وفد الله من كل جيل وكم من محب ذاب شوقاً إليها، ولم يبلغ منها مدى وأملاً وأصبح لسانُ حاله يقول: يا كعبة الحسن كم من عاشق قُتلا شوقاً إليك ورام الوصل ما وصلا قد يتمت بعده الأولاد حين سرى وظل يبكي بدمع خاض منهملاً فكم غريق بحار في هواك غدا وآخرٍ ظل في البيداء مرتحلا وأنتم معشر الزوار قربكم إلى مقام بها أمنٌ لمن دخلا فلا تخافوا فأنتم في ضيافته فهو الكريم الذي بالجود ما بخلا إنك الآن واقف بين يدي الله وحيداً فريداً قد تخليت عن الأهل والولد والجاه وقدمت إليه منقطع الصلة بالحياة والأحياء في لباسك هذا الذي تغادر به الدنيا إلى مشاعر مضيئة للعبادة والتوجه إلى العلي القدير في موكبٍ إيماني رائع وفي مقام وحده لا تخجل من أن تعترف بذنوبك وآثامك، بل إنك لتجد الراحة والسلام وأنت تذيب هذه الذنوب والآثام في دموع التوبة والندم. ها أنت أيها الحاج تقف بباب الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو الذي وسعت رحمته كل شيء فأنت تلوذ بحماه وتستجديه الرحمة والغفران. وفي هذا المقام وحده يجأر الإنسان بالدعاء، ولا يحس بمن حوله ولا يحس به من حوله، من إحساسه كل شيء في الوجود إلا أنه عبد آبق تقطعت به الأسباب فأقبل على مولاه تائباً منيباً بين يديه لأنه لا مهرب منه إلا إليه. ما أجملها من مشاعر، وما أروعه من موقف أثير، ومع هؤلاء الحجيج نردد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.