جاء في الأثر: أن (من لا معاش له لا معاد له). وهو تأكيد مباشر على ضرورة أن يعي الإنسان دوره في الحياة وضرورة سعيه الحثيث نحو بناء ذاته عبر ترك الكسل والعزم على التطور والتقدم طلباً للرفاه وفق ما يرتضيه الشرع، ذلك أن من كسل عن طلب الدنيا بالطرق المشروعة كان عن طلب الآخرة أكسل وأقعد - وهي الغاية في هذه الحياة. أقول.. إن مكمن المشكلة وجوهرها أننا نعيش في بلد طموحه أكبر من طموح مواطنيه - والله هذه هي المشكلة الحقيقية - حيث اقتصر مفهوم العمل عند أغلب السعوديين - أقولها بكل أسف - على استلام الراتب عند نهاية كل شهر (وخلاص)!! في الوقت الذي تتدخل قوات الطوارىء والشرطة اليابانية في كثير من الأحيان لمنع الموظفين عن العمل بعد انتهاء الوقت الرسمي للدوام حفاظاً على أرواحهم أن تهلك، وذلك أن نسبة كبيرة منهم تعيا ثم تمون على طاولات العمل نتيجة الإرهاق والنشاط المفرط. إننا نعاني من تلك الضبابية التي تخيم لتغيم ثم تتسع وتتسع لتنعدم معها الرؤية الشاملة لمفهوم (العمل) فاقتصر المقصود من العمل والغاية منه على مجرد العيش بنطاقه الضيق، وهو الدخل الشهري (المعاش) الذي يوفر الحد الأدنى للحياة، وعند التقاعد يكون الحال كما يقال: الإحالة على المعاش حتى الممات. لقد تفشت بيننا مظاهر الكسل والتواكل والاعتماد على الغير، حتى ارتفعت نسبة الإعالة عند الأسر السعودية إلى مستويات كبيرة (1 على 6) وهذا معناه أن فقد العائل (لا قدر الله) يعني تحول بقية افراد الأسرة- لحدثة سن أفراد المجتمع - إلى فقراء تجب لهم الزكاة، وإذا أردنا أن نعمل تجدنا نبحث عن الربح السريع الذي لا يكلفنا التعب (التستر التجاري) وتعودنا على الاستهلاك دون الإنتاج، فكثير من الشباب يعاني من عقدة الطفرة التي ذهبت لغير رجعة حيث سمع عنها وحلم بها حتى تخيل أنه لا يستطيع أن يتصور حاله من دونها، لأن الحال الذي ارتبط بمظاهر البذخ والتبذير والإسراف وعدم المبالاة ما زالت تخيم على التصرفات والسلوكيات فقد تناقلت صحافتنا المحلية نبأ ارتفاع اعداد المدرجين على القوائم السوداء لدى البنوك التجارية لأرقام قياسية (قينتس) بسبب كثرة المديونيات الاستهلاكية. من زاوية أخرى نجد في القرآن الكريم أن هناك ثنائيات تتحدث عن الطبيعة التكاملية كالليل يذكر مع النهار، والشمس مع القمر، والسموات مع الأرض.. والذين يقيمون الصلاة مع الذين يؤتون الزكاة.. ولكن من أبرز هذه الثنائيات في الدلالة والتي نحن بصددها أن القرآن عندما يتحدث عن {َالَّذِينَ آمَنُواْ} فإنه يضيف إليهم دائماً {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} وقد تكرر هذا في القرآن مرات تجاوزت المائة مرة، وهذا الربط المتواتر ما بين {َالَّذِينَ آمَنُواْ} و{وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} يوضح لنا أن الإيمان إنما يكتمل بالعمل.. فالإيمان دون عمل يخالف بلا شك توجيهات القرآن الكريم والسنة المطهرة التي تقرن دائماً وأبدا الإيمان بالعمل. وحقيقة أن العمل- كما توضح الآية أعلاه - هو مصداق الإيمان ومعيار الثواب والعقاب يجب ألا تثير دهشتنا لأن الإسلام دين حياة ومجتمع، وهو يرسي أسساً محددة في الاقتصاد والسياسة ونحوهما، ويتطلب مستويات معينة في التصرفات والمعاملات، فلابد أن يكون العمل هو المحور والمعيار داخل الإطار الواسع للإيمان.. وبدون ذلك لا يمكن للمجتمع أن يكون قوياً متماسكاً سليماً. والذين زاروا (كوريا) و(اليابان) وتفقدوا مصانعها لمسوا أن العمال هناك يؤمنون أن العمل عبادة ويمارسونه بالتركيز واستحضار القلب الواجب للعبادة، فالمصنع معبد له قداسة المعبد، والعمل عبادة له استغراق العبادة والعمال يتقربون إلى الله (أو معبودهم أياً كان كنهه) بالإنتاج لأن هذا الإنتاج يملأ البطون الجائعة، ويكسو الأجسام العارية ويشفي الأبدان ويعيد الآمال إلى النفوس ويكفل للشعب كله العزة والكرامة والاستغناء عن التكفف أو الاستدانة من الآخرين. والله المستعان. [email protected]