الحياة لا تخلو من كدر يعكر صفوها.. وعناء يطفئ بريقها.. فهي دار ابتلاء وامتحان.. ونكد وأحزان.. عطاء وحرمان.. سراء وضراء.. قوة وضعف.. صحة ومرض.. نصر وهزيمة.. غنى وفقر.. حياة وموت..»{وّلّنّبًلٍوّنَّكٍمً حّتَّى" نّعًلّمّ المجّاهٌدٌينّ مٌنكٍمً وّالصَّابٌرٌينّ وّنّّبًلٍوّ أّخًبّارّكٍمً }، {الّذٌي خّلّقّ المّوًتّ وّالًحّيّاةّ لٌيّبًلٍوّكٍمً أّيٍَكٍمً أّحًسّنٍ عّمّلاْ} وهكذا تقلب الاقدار من لدن حكيم عليم {قّالّ رّبٍَنّا الذٌي أّعًطّى" كٍلَّ شّيًءُ خّلًقّهٍ ثٍمَّ هّدّى"}. ولأجل التذكير بفرج الله ومشاركة لإخواننا المهمومين وبقصد التخفيف من آلام المنكوبين وبث روح التفاؤل والأمل في النفوس تأتي هذه الكلمات. كلمات وضعتها لشدة الحاجة إليها.. فهي جهد المقل وقدرة المفلس.. نحذر فيها من الداء وان كنا من أهله ونصف فيها الدواء وان لم نصبر على تناوله راجين أرحم الراحمين ان يغفر لنا غينا لأنفسنا بنصيحتنا لعباده المؤمنين. كلمات أوجهها الى كل من سئم من الحياة ان هناك فرجاً بعد شدة ويسراً بعد عسر، {وّعًدّ اللهٌ لا يٍخًلٌفٍ اللّهٍ وّعًدّهٍ} . إلى كل من اصابهم الأرق والضنك والألم ابشروا فإن الصبح قريب. الى من حاصرتهم الغموم وانتابتهم الهموم لا تيأسوا {إنَّهٍ لا يّيًأّسٍ مٌن رَّوًحٌ پلَّهٌ إلاَّ پًقّوًمٍ پًكّافٌرٍونّ}. ولربَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرجُ ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرجُ آن أن تداووا الشك باليقين.. ومرارة الأسى بحلاوة الرضا.. آن أن تتبعوا منهج الله الذي لا منقذ غيره من الشقوة والعذاب والحيرة والاضطراب.. منهج الله القادر القاهر فوق عباده الفعال لما يريد.. آن أن تتعبد القلوب باليقين بقدر الله القائل: {قٍل لَّن يٍصٌيبّنّا إلاَّ مّا كّتّبّ اللهٍ لّنّا هٍوّ مّوًلانّا وّعّلّى اللهٌ فّلًيّتّوّكَّلٌ المٍؤًمٌنٍونّ } والقائل { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. ان هذه العقيدة إذا رسخت في القلب صارت البلية عطية والمحنة منحة.. ومن يرد الله به خيراً يصب منه. قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعِم ولن تهدأ النفوس وتذهب وساوس الصدور حتى نؤمن بالقضاء ولاقدر.. {إنَّا كٍلَّ شّيًءُ خّلّقًنّاهٍ بٌقّدّرُ }. إن وراء كل نجم يبزع.. وكل برعم يترعرع.. قدر الله. إن وراء كل نبضة قلب.. وكل خلجة عين.. قدر الله. إن وراء كل رغبة تجيش في صدر.. وكل نية تكمن في قلب.. قدر الله. إن وراء كل حي يولد ويموت في هذا الكون العريض على مدى الأبد الأبيد.. قدر الله. ولولاه ما كان شيء ولا يكون. أي رضا وطمأنينة؟! أي تقوى وطهارة؟ يسكبها في قلب المؤمن تمثل هذه الحقيقة.. يقول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: «لقد تركتني هؤلاء الدعوات ومالي في شيء من الأمور كلها أرب إلا في مواقع قدر الله وكان كثيراً ما يدعو: اللهم رضّني بقضائك وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته ولا تأخير شيء عجلته». هي المقادير فلمني أو فذر تجري المقادير على غرز الإبر الله سبحانه هو الصمد الغني عما سواه وكل ما سواه فقير إليه.. والارزاق بيد الخلاق فما كان لك منها أتاك على ضعفك وما كان لغيرك لم تنله بقوتك.. ورزق الله لا يسوقه اليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهية كاره فهو معقود بالله وحده هو الذي ييسر أسبابه وهو الذي يمسكه او يفتح أبوابه { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}. وكلمة الرزق أوسع من ظاهرها الذي يتبادر الى الذهن فهي لا تقتصر على المتاع المادي من اموال ومطاعم ومساكن وانما تشمل كل ما يرزقه الله الناس من ازواج واولاد وصحة وهناء ونصر وغنى وقوة وتوفيق وتسخير وسراء. وحكمة الله بالغة في العطاء والمنع فهي الفتنة والاختيار {$ّنّبًلٍوكٍم بٌالشَّرٌَ $ّالًخّيًرٌ فٌتًنّةْ} {$ّبّلّوًنّاهٍم بٌالًحّسّنّاتٌ $ّالسَّيٌَئّاتٌ} من اجل ذلك كان للسلف رحمهم الله تعالى في هذا الباب وقفات محكمات لبيان الحق والدلالة إليه.. فقد نقل سفيان الثوري - رحمه الله - عن بعض السلف قوله: «إن منع الله عبده من بعض محبوباته هو عطاء منه له لأن الله تعالى لم يمنعه منها بخلاً وإنما منعه لطفاً». انه سبحانه لم يمنع أحداً من خلقه شيئاً من الدنيا إلا لحكمة بالغة وتقدير عليم ومصالح قد تخفى على أكثر الناس يدل لذلك قوله عليه الصلاة والسلام «إن الله إذا أحب عبداً حماه عن الدنيا كما يظل احدكم يحمي سقيمه الماء» وفي رواية «إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه». ان الواقع الذي يعيشه كل امرئ في حياته ليقيم الأدلة على صحة ما نقله سفيان الثوري رحمه الله.. فكم من مؤمل ما لو بلغ امله لكان عاقبة امره خسرا ونهاية سعيه حسرة وندما.. رباه حكمك في عبادك نافذ ذو حكمه فالطف بنا رباه فالله هو الذي يقلب الليل والنهار وعنده رزق العباد وقد تكفل بذلك {وّفٌي السَّمّاءٌ رٌزًقٍكٍمً وّمّا تٍوعّدٍونّ ، فّوّرّبٌَ السَّمّاءٌ وّالأّرًضٌ إنَّهٍ لّحّقَِ مٌَثًلّ مّا أّنَّكٍمً تّنطٌقٍونّ} ولهذا لما قرأ أحد الأعراب هذه الآية قال بفطرته: «يا سبحان الله من ذا الذي اغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدقوه حتى ألجؤوه الى اليمين». فالله تعالى قد ضمن وتكفل بالرزق والمرء يطلبه رزقه كما يطلبه اجله ولكن كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «قاتل الله أقواماً اقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا».. فالناس يؤتون من قلة تحقيق التوكل ومن وقوفهم مع الأسباب الظاهرة لقلوبهم ومساكنتهم لها ولو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق الله إليهم ارزاقهم مع ادنى سبب كما يسوق للطير ارزاقها بمجرد الغدو والرواح. في التوكل على الله راحة البال واستقرار الحال ودفع كيد الأشرار وهو من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وبه قطع الطمع عما في أيدي الناس، لذا عظم الله شأنه وقرنه بالعبادة في قوله{فّاعًبٍدًهٍ وّتّوّكَّلً عّلّيًهٌ} وحقيقته القيام بالأسباب والاعتماد بالقلب على المسبب واعتقاد أنها بيده فإن شاء منع اقتضاءها وإن شاء جعلها مقتضية بضد أحكامها وإن شاء أقام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه. ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام أكمل المتوكلين لم يبخل بالأسباب فقد استأجر دليلاً يدله على طريق الهجرة وحفر الخندق يوم الأحزاب.. فالموحد المتوكل لا يطمئن للأسباب ولا يرجوها كما أنه لا يهملها أو يبطلها بل يكون قائماً بها ناظراً إلى مسببها سبحانه ومجريها.. وإذا قوي التوكل وعظم الرجاء أذن الله بالفرج.. ترك الخليل زوجته هاجر وابنها اسماعيل صغيراً رضيعاً بواد لا حشيش فيه ولا أنيس توكلاً على الله وامتثالاً لامره فأحاطهما الله بعنايته فإذا بالصغير يكون نبياً.. والماء المبارك زمزم ثمرة من ثمار توكل الخليل عليه السلام. وأم موسى القت ولدها في اليم ثقة بالله وامتثالاً لامره فإذا هو رسول من اولى العزم المقربين. ويعقوب قيل له ان ابنك اكله الذئب ففوض امره الى الله وناجاه فرده عليه مع اخيه بعد طول حزن وفراق. { وّتّوّكَّلً عّلّى العزٌيزٌ الرَّحٌيمٌ، الذٌي يّرّاكّ حٌينّ تّقٍومٍ ، وّتّقّلٍَبّكّ فٌي السَّاجٌدٌينّ }، {إنَّهٍ هٍوّ پسَّمٌيعٍ پًعّلٌيمٍ} لنسلم الامر الى مالكه فالله عزيز لا يضل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنابه وهو سبحانه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه ولا يجري حادث إلا بمشيئته.. ومن تعلق بغير الله او سكن الى علمه وعقله واعتمد على حوله وقوته وكله الله الى ذلك وخذله.. ومن حقق التوكل لم يكله الى غيره بل تولاه بنفسه {وّمّن يّتّوّكَّلً عّلّى اللهٌ فّهٍوّ حّسًبٍهٍ} فالله هوالمتفرد بالاختيار والتدبير وتدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه وهو ارحم به منه بنفسه. فيا أصحاب الحاجات.. ايها المرضى.. أيها الأيامى.. أيها المكروب والمظلوم.. أيها المعسر والمهموم.. أيها الفقير والمحروم.. لا تستوحشوا من ظاهر الحال وفوضوا الأمر الى الرحيم واقطعوا العلائق عن الخلائق وارفعوا أكف الضراعة الى الله.. لتتعرضوا الى من القلوب بين اصبعيه وأزمّة الأمور بيديه فلعله ان يصادف اوقات النفحات وساعات الاجابة فالله قريب مجيب حيي كريم ومن يكثر قرع الباب يوشك ان يفتح له. وإني لأدعو الله والامر ضيق علي فما ينفك ان يتفرجا ورب فتى سدت عليه وجوهه اصاب له في دعوة الله مخرجا لنقوِّ باعث الدين بإجلال الله تعالى والعمل لله وصرف الفكر في عجائب آيات الله والتفكر في الدنيا وسرعة زوالها وانها لو صفت لاحد لصفت لأنبياء الله ورسله. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «من خلقه الله للجنة لم تزل هدايا تأتيه وهي المكاره» كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام «حفت الجنة بالمكاره». وقال ابراهيم التيمي رحمه الله: «ينبغي لمن لم يحزن ان يخاف ان يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قالوا: الحمد لله الذي اذهب عنا الحزن». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «من تمام نعمة الله على عباده ان ينزل بهم من الشدة والضر ما يلجئهم الى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه ولا يرجون احداً سواه فتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه ومن حلاوة الايمان وذوق طعم الايمان والبراءة من الشرك ما هو اعظم نعمة عليهم من هذه الشدة اذا زالت. وهو من كانت حياته كفافا لم يعرف الدور ولا القصور.. لم يعرف لذة المناكح ولا متعة الابناء.. ومع ذلك يقول: انا جنتي وبستاني في صدري ان قتلي شهادة وسجني خلوة واخراجي من بلدي سياحة. ويقول: ان في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة».. الله أكبر.. الدنيا بكل همومها وغمومها فيها جنة.. انها الجنة حينما يعيش الإنسان في كنف الإيمان بالله. تأمل يامن من أحسست بالضيق والهم.. تأمل بكلمات المحبين لله، تأمل بأخبارهم.. فسبحان من اشهد عباده جنته قبل لقائه وصدق الله: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ }. ان نداء الفطرة ينادي الجميع الى الحياة الحقة.. الحياة التي وجدها الصالحون.. الى جنة الدنيا لنلج منها الى جنة الآخرة. مع المصطفى نرجو بذاك جواره وفي نيل ذاك اليوم نسعى ونُجهد