ما زالت إفرازات الأزمة التي صنعتها الولاياتالمتحدة مع العراق تتواصل، وتعطي كل يوم بعداً جديداً، ليس فقط على مستوى علاقات الدول وإنما امتدت إلى المنظمات والهيئات الدولية التي استقر عليها المجتمع الدولي منذ أكثر من نصف قرن. فما زال مجلس الأمن حتى كتابة هذه السطور منقسماً على نفسه بين اتجاهين متناقضين حول خيارات الحرب والسلام، ففرنسا وروسيا والصين مع امهال المفتشين الدوليين وقتهم في مهمتهم بالعراق، وتقف أمريكاوبريطانيا في الجانب الآخر بضرورة إصدار قرار جديد يجيز ضرب العراق.. وأي عمل يخرج عن إطار هذا المجلس وشرعيته سوف يعرضه للاهتزاز إن لم يكن للانزواء للأبد بعد أن فقد مصداقيته!! وكذلك انقسم الاتحاد الأوروبي على نفسه بين دول مؤيدة لضرب العراق وأخرى تقف إلى جانب فرنسا وألمانيا بإعطاء الدبلوماسية وقتها وحقها في انهاء الأزمة بطرق سلمية، فتوجد مجموعة من دول الاتحاد ال15 أطلق عليها مجموعة الثماني بعثت برسالة لواشنطن تشيد فيها ببعد نظرها وتتعهد بمساندتها في حربها ضد العراق، الأمر الذي جعل الرئيس الفرنسي يهدد الدول التي تنتظر دخولها الاتحاد الأوروبي برفضه دخولها الاتحاد.. وتصاعدت لغة التخاطب بينهما إلى درجة التلاسن وإلقاء الاتهامات. وقد اتسعت الفجوة بين دول الاتحاد بانقسام آخر داخل البرلمان الأوروبي فقد صوت 287 ضد 209 على نداء أمريكا، فقد فضلوا تجنب ضربة إجهاضية للعراق باعتبارها مخالفة للقوانين الدولية وتعمق أزمة الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي قد يعجل بانقسام الاتحاد وفشله في لملمة صفوفه، بعد أن أنجز الكثير في ذلك الصدد. وقد صدّرت أمريكا للحلف الاطلنطي نفس المشكلة حيث تلح منذ فترة على اصدار قرار من الحلف بحماية تركيا في حالة أي هجوم عراقي عليها، لكن فرنسا وألمانيا وبلجيكا استخدمت حق الفيتو على القرار معتبرة ذلك ترتيبا يصب في خانة الحرب.. مما حدا بوزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد إلى اعتبار ذلك الاعتراض «عاراً وفضيحة تخطف الانفاس.. وخطأ لا يغتفر وينتهك مبادئ الحلف». ويعتبر هذا هو الخلاف الأهم منذ إنشاء الحلف عام 1954 ولقد أصاب هذا الرفض أمريكا وصدرت مطالبات داخل الولاياتالمتحدة بالانسحاب من الحلف أو على الأقل إعادة النظر في الدور والوجود الأمريكي بأوروبا!! الأزمة طالت أعرق ثلاث منظمات في العالم: مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي، وقد تتسبب في انهيارهم وفقد مصداقيتهم إذا تصرفت أمريكاوبريطانيا بشكل منفرد في ضرب العراق واحتلاله بعيداً عن الشرعية الدولية!! ويبدو أن ارهاصات الأزمة لم تتوقف عند المنظمات الدولية بل تجاوزتها إلى التشكيلات والهيئات الدينية، فبالإضافة الى موقف الفاتيكان الرافض للحرب ومجلس الكنائس العالمي والاتحاد العالمي للكنائس.. سأركز هنا على الموقف الكنسي في كل من بريطانياوأمريكا اللتين تتزعمان الحملة لضرب العراق. فقد عقدت الكنيسة في اسكتلندا مؤتمراً لمدة يومين (20و21 يناير الماضي) ووجهت رسالة الى بلير تحدثت فيها عن قدسية الحياة الانسانية، والمسؤولية تجاه الأجيال المقبلة، والايمان بأن هذه الحرب غير عادلة وغير مبررة وتتعارض مع المبادئ المسيحية. وفي أمريكا أصدر جيم وينكلر الأمين العام بياناً باسم الكنيسة الميثودستية التي يتبعها الرئيس بوش ونائبه، حيث قال: «لقد دعت الكنيسة الميثودستية لتأييد حق تقرير المصير ومبدأ عدم التدخل لكل الأمم.. وتعارض التدخل من جانب أمم قوية ضد الأمم الضعيفة وتعترف بالواجب الأخلاقي لكل الأمم بحل خلافاتها جميعا بالطرق السلمية.. والرئيس بوش ونائبه تشيني عضوان في طائفتنا.. وصمتنا يمكن أن يفسر بأنه نوع من الموافقة الضمنية على الحرب وليس من المتصور أن يوافق المسيح على هذا الهجوم المزمع». المعارضة للحرب والتصدع من داخل عقيدتهم وطائفتهم يتصاعد وتزداد حدته بصورة تهز العالم وأركان مؤسساته وهيئاته ومنظماته، لذلك ستكون خسارة بلير وبوش أكيدة سواء أقدما على ضرب العراق رغماً عن الإرادة الدولية أو انسحبا من الحرب. وأزعم أن طريقهما إلى الحكم في انتخابات أخرى قادمة محكوم عليه بالفشل!! والأيام والأحداث بيننا!!