الغريب أنه مع كل التحذير الإعلامي من المشعوذين، يزامن ذلك جانب آخر من التغطيات الإعلامية المبهرة بلغة الإيحاء والمشبعة بالإثارة هي ما يتعلق بمعالجي الحالات المشخصة بالغيبيات. صفحة كاملة أو حلقات متسلسلة تخصص لموضوع عن اخراج الجن من جسد المريض,, وأخرى يتابعها المحرر شخصياً على مدى جلسات ولأيام أو يسجل فيها أقوال المعالج وأفعاله وشهاداته عن حالات المرضى الذين عالجهم من السحر,, كلها بصيغة وشهد شاهد من أهلها , ولا ينسى أيهم تبرئة نفسه من تهمة الاستفادة المادية,, كلهم يؤكدون أن هاجسهم في ذلك استغلال قواهم المتفوقة هذه في عمل الخير لله في سبيل الله، وقد يكون ذلك حقيقة في حال البعض منهم,, ولكن الأغلبية لا يرفضون ما تجود به نفس طالب العلاج . ثم تبقى تهمة الرغبة في الظهور كفرد ذي قوى خارقة يأتيه المراجعون من الأقاصي ويصطف طالبو العلاج عند بابه طوال الليل. ربما الاشد تضرراً من جهل المجتمع خاصة أفراد العائلة الحميمة هم فئة المعانين من مرض نفسي، إذ مازال الغالبية، ومن كل فئات المجتمع، يخجلون من التصريح بشعورهم باضطرابات طارئة في سلوكهم أو انفعالاتهم النفسية,, ويتهيبون الاعتراف العلني بذلك خشية أن يدمغهم المجتمع بوصمة الجنون,, والأسهل أن تشخص بأنها عين أو مس، علاجها عند غير الأطباء. المرض النفسي ليس جنوناً, وفي أغلب الحالات يمكن علاجه وبسهولة على يد الطبيب النفسي، فالأمر قد يكون اختلالاً في توازن كيمياء الجسد، أو نقصا في مادة معينة يمكن اعادته إلى الحال الطبيعية بجرعة دواء يواظب عليها تحت اشراف الطبيب المختص. ولكن الخجل من المرض النفسي قد يمنع المريض أو أهله من طلب هذا العلاج من مصادره المباشرة, وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى عدم فهم مسبباته البيولوجية والوراثية والخوف من تشخيص أعراضه حتى لو كانت مجرد شعور متزايد بالانقباض والاكتئاب أو التوتر أو اختلال السلوك بفقدان القدرة على تأويل الحدث أو ردود الفعل المناسبة أو التواصل مع مؤثرات العالم بصورة طبيعية. كثير من الاضطرابات ومنها ما يبدو مخيفاً كالوساوس والهلوسة من رؤية أشباح أو سماع أصوات تهدد أو تحض على إيذاء النفس أو الآخرين يمكن علاجها بأدوية طبية أثبتت فعاليتها,, ويتم ذلك في أوقات زمنية قياسية, ولكن كثيراً من المرضى لا يأتون للطبيب إلا بعد اضاعة مالهم وجهدهم وكثير من الوقت الثمين في طلب العلاج من مصادر غير معتمدة، قد تشمل السفر لبلاد بعيدة بتكلفة باهظة، حيث إن كثيراً ما نسمع عبارة لم نترك بلداً إلا وسافرنا إليها وراء العلاج , بينما المريض النفسي الذي يتلقى العلاج هنا يتظاهر بعدم معرفة طبيبه إذا التقاه صدفة في الطريق. طلب العلاج الصحيح ليس وصمة بل دليل ثقافة ووعي وفهم. فليت وعي المجتمع ينمو بمعرفة الاضطرابات النفسية والسلوكية وأنها أمر يمكن معالجته عند الطبيب المختص وبدواء من الصيدلية,, لا يختلف عن علاج حالة الحساسية أو التسمم الغذائي. وليت منابرنا الاعلامية، خاصة الصحف، تعي مدى الضرر الذي تلحقه بنمو هذا الوعي حين تمنح تغطياتها للنشاطات المشبوهة.