الاعتراف بالمرض النفسي لا زال على استحياء في بعض المجتمعات التي تختلف باختلاف التقاليد ومستوى التعليم في كل مجتمع بل وفي كل أسرة، وما زال البعض يعتبره عيبا ونقصا في الأسرة التي يظهر بها أحد الأفراد يعاني من مرض نفسي، ويحوره البعض على انه سحر أو عين، لذلك نجد الكثير من المرضى النفسيين وجدوا في الانطوائية والعزلة مكانا بعد أن رفض الأهل علاجهم، بل إنهم يصرون على الذهاب بهم إلى الرقاة، رغم أن الكثير من الرقاة الشرعيين يوضحون أن المريض لا يعاني إلا من ضغوط نفسية ولابد من معرفة أسبابها ليتم علاجها، وهنا نذكر تجارب ناجحة عاشها العديد من المرضى النفسيين في اكتشاف مرضهم وتخطوا رفض أهاليهم في الاعتراف بذلك، ليحجزوا لهم موعدا لجلسات تتكرر بحسب حالتهم وليتجاوزوا نظرة المجتمع الذي يحصرهم بالسحر والعين خوفا من لقب «مجنون». وفي إحدى عيادات الطب النفسي كانت (للمدينة) جولة في قسم العيادة النفسية، ووجدنا بها عدد قليل من النساء لا يتعدى ثماني حالات، ويسود المكان هدوء بالنسبة لإزعاج الأقسام الأخرى لا أحد يتكلم مع الآخر وكأنهم بعزلة عن العالم الخارجي، واقتربنا من سيدة كانت برفقة زوجها، وكانت متزنة وكلامها هادئ . تحدثت بقولها : أنا اسمي (مريم) وقصة مرضي بدأت منذ زواج والدي رحمه الله وبعد أن زادت المشاكل بينه وبين والدتي وفي ذات مرة أصابني إغماء ولم أفيق إلا بعد ساعات، ومنذ ذلك اليوم أصبحت تأتيني هذه الحالة على فترات متباعدة، وكانت والدتي تتحدث مع أهلي وأقاربي عندما يسألون عني أنني أعاني من السحر أو العين، وتؤكد على ذلك خوفا من أن يقولوا مريضة نفسية وبالتالي (مجنونة)، وعند زواجي تحسنت حالتي كثيرا ولكن بعد طلاق أخت زوجي حصلت خلافات ومشاكل عديدة بيننا، مما أرجع لي نوبات الصرع وبشكل متكرر زاد من حالتي سوءا لقلقي من زواج زوجي بأخرى، وهنا لجأت إلى الطبيب النفسي والذي صرف لي بعض الأدوية، وأوضح أنني أعاني من حالة عصبية نتيجة الظروف المحيطة بي، وقاطعتها وسألتها لماذا لم تلجئين إلى الرقية الشرعية؟ قالت : بالعكس ذهبت بي والدتي لتقنع نفسها ولتقنعنا بأنه عين أو سحر، فقد ذهبنا هنا وهناك مرة عند من يقرأ بمقابل مادي، وآخر بدون مقابل، وقليل منهم من قال إن بي سحرا أو عينا، وآخر زيارة لي لراقٍ أكد أنني لا أعاني إلا من مشاكل نفسية ولكن لم يمانع من تكملة الرقية وقراءة القرآن فهو راحة لي، ولكن لابد من مراجعة الطبيب النفسي لعلاج أسباب مرضي، وما زالت والدتي تنكر أنني مجنونة على حد قولها، خوفا من نظرة المجتمع والذي جعل غالبية المرضى يعانون ضغوطا نفسية، وحباً للعزلة والانطوائية لوصفهم بصفة العار والجنون لكل مريض نفسي، ويجردونه من كل أنواع المسؤولية والإدراك حتى وإن تعافى بعد ذلك من مرضه. أما السيدة أم أحمد والتي امتنعت عن قول أي شيء إلا بعد مناقشتها بأن الكثير قلب مفهوم التعب والمرض النفسي بالسحر والعين فقالت : لم أعاني من قبل من أي شيء ولكني كنت أكثر إحساسا وتأثرا من أي مشكلة، وقبل سنة ونصف تزوج زوجي وبعد مشاكل عديدة مع زوجي رجعت إلى بيتي وهنا بدأت تأتيني أحاسيس بالضيق وخفقان بالقلب وارتعاش مع شعوري بأنني في حالة اللاوعي وأصبحت أفكر كثيرا بالموت أو بنهاية حياتي بالجنون، وعندما أبلغت أهلي أكدوا لي أن هذا سحر وكنت أنا أيضا متأكدة بذلك، وهنا بدأت رحلة العلاج وتنقلت بين العديد من المشايخ المتخصصين بالرقية الشرعية، والذين أقنعونا بأنني أعاني من حالة نفسية، وما أن علم أهل زوجي حتى أصبحوا ينظرون لي بنظرة الشخص غير المدرك، حتى أنهم اعتزلوني وانقطعوا عن زيارتي، والآن أنا أتعالج من المرض النفسي فأصبحت أكثر راحة وتحسنت حالتي كثيرا بعد مداومتي على العلاج مع قراءة القرآن والمداومة على الأذكار النبوية الشريفة، ورغم كل ما يقال حولي لا تهمني إلا وقفة أهلي بجانبي وزوجي رغم ضغوط أهله عليه بعدم السماح لي بالذهاب إلى العيادات النفسية. أما السيدة سلمى فاكتفت بقولها : راجعت مستشفيات كثيرة ظنا مني بأنني أعاني من مرض عضوي وعملت الكثير من المراجعات والإشاعات التشخيصية التي لم تظهر بأنني أعاني من شيء وأن ربما ما أعانيه من تعب وخمول ليس إلا توترا عصبيا، وبعد أن أصبحت أشعر بالكثير من الخمول والكسل وفقدان الشهية وحتى بالانعزال عن كل شيء حولي أصبحت كثيرة التفكير بالموت، ومن عدم الشعور بمتعة الحياة وشيئا فشيئا بدأت بالانعزال عن كل مناسبات الأهل والأصدقاء، هنا بدأت أفكر بأنني أعاني من مرض نفسي ، وهذا كان قبل زواجي والذي رفض ابن عمي الاقتران بي عندما علم بذلك، واكتفى بقوله لا أربط نفسي مع مجنونة لا تعرف أن تربي أولادها وأن تقوم بشؤون بيتي، وبعد زواجي من آخر كان يعلم مسبقا بحالتي وصارحته بأنني أرغب بالذهاب إلى الطبيب الذي أوضح بأن ما أعانيه غالبا أعراض اكتئاب. د. حافظ : خلال 3 سنوات زاد عدد المرضى النفسيين أوضح مدير مستشفى الصحة النفسية بمنطقة المدينةالمنورة الدكتور أحمد بن حفيظ أحمد حافظ بأن الإحصائيات التي تشير إلى الثلاث سنوات الأخيرة في زيادة واضحة لأعداد المرضى النفسيين من الجنسين سواءً كان في العيادة الخارجية أو الطوارئ أو بأقسام التنويم وأشار إلى أن هذه الزيادة ترجع إلى الوعي الصحي النفسي لدى المجتمع، وللجهد الكبير الذي تبذله وزارة الصحة في إدارة الخدمة النفسية بالوزارة من مجهودات فعالة على مدار الأعوام الماضية في تصحيح المفاهيم الخاطئة عن المرض والمرضى النفسيين، وإزالة وصمة العار والنقص المرتبطة بالمرض النفسي لدى المجتمع. وأكد الدكتور حافظ أن الأنشطة التوعوية للمجتمع والتي تشمل جميع فئات المجتمع في المدارس والجامعات والإدارات الحكومية ساعد في تغيير المفاهيم الخاطئة حول ما يقال عن المرضى النفسيين وعن العلاج النفسي، ولكن ما زال هناك النسبة الضئيلة من المجتمع التي ترفض تقبل المريض النفسي خاصة من ذويهم الذين يرفضون استلامهم بعد تماثلهم للشفاء أو حتى التعاون مع المستشفى في تأهيل المريض للعودة تدريجياً إلى المجتمع. العمري : المرض النفسي موجود ولابد من تغيير نظرة المجتمع من جهة أخرى قال الشيخ أحمد عبد الله العمري «المرض النفسي موجود ولابد من تغيير نظرة المجتمع والأهل للمريض النفسي ، فهو كغيره من الأمراض أما أن يعلق كل شخص مرضه بالسحر والعين فهذا لا يجوز فلابد الأخذ بالأسباب والبحث عن الطريق الصحيح للعلاج ومع هذا لا يمكن أن نغفل دور القرآن الكريم والسنة النبوية في بعض الآيات والأذكار التي تساعد كثيرا في الراحة والسكينة لمن يتواتر عليها صباحا ومساء، غير أن الكثير من الناس هو المسبب الأول لمرضه النفسي. فيما أوضح الشيخ العمري بأن أغلب الأعمال السحرية الآن انحصرت بين سحر للتفريق أو المحبة، فالمرض النفسي يكون حالة تصيب الشخص ويمكن تشخيصه وتحديده أما السحر والعين ليسا مرضا يمكن تحديده ولكنهما أعراض يمكن معرفتها لدى الراقي المتمكن، داعيا إلى أن الجمع بين العلاج النفسي والرقية الشرعية أفضل، مؤكدا أن هناك من الأطباء النفسيين من يؤمن بضرورة العلاج القرآني مع العلاج النفسي للمريض. د. عطية : يجب الاهتمام بالنفسيين وإدراجهم ضمن شركات التأمين الطبي أكد استشاري الأمراض النفسية والعصبية الدكتور محمد عطية بقوله أغلب المراجعين لدينا يعانون من القلق والاكتئاب واللذين يعتبران أكثر الأمراض شيوعا وإذا تطورا سببا اضطرابا نفسيا واختلالا غير طبيعي لصاحبه مشيرا بأن أهم الفروقات بين الأمراض النفسية وعوارض السحر أو العين أن الأمراض النفسية معظمها تكون تحت المنظمتين الأمريكية والبريطانية فالأمريكية والتي نعمل بها يوجد بها لكل مرض نفسي قائمة من العلامات التشخيصية بناء على تجارب عديدة نقوم بها مع المريض النفسي، وهذه العلامات متماشية مع أعراض الأمراض النفسية كالاكتئاب والرهاب وغيرها من الأمراض وهنا نكتشف أيضا من عمل التشخيصات الفارقة للمريض فإذا اتضح خلاف هذه الأعراض نوجه المريض للرقية الشرعية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فالأمراض النفسية تصيب الإنسان أحيانا نتيجة ظروف وعوامل اجتماعية وأمور متنوعة أخرى، بينما السحر والعين نتيجة أسباب معينة كالإيذاء والعشق ونحوه وكذلك فإن حالات المرض النفسي يكون لها نمط معين في السلوك والتصرف، بينما الأمور الأخرى ليس لها نمط أو سلوك محدد وحالات المرض النفسي غالبا ما تكون الأعراض مستمرة ومتناسبة مع نوعية المرض الذي تعاني منه الحالة المرضية.