لم أستطع رؤيةَ قلبيّ في انعكاسِ القهوةِ الأمريكية الباردة كما أعتدت على رؤيتهِ من خلال الأشياءِ التي أحبها، وبدا ليّ الوجودُ متغيرًا على نحوٍ لم يسبق لي.. فتداعيتُ إلى ذاكرتي أفتشُ فيها عما أرى ولا أرى راميًا بنردٍ كلما هممتُ الذهاب إلى ناحية. أشكلُ وجهيّ أمام المرآة، وألمسُ المواقف التي تدقُ أوتادَ الخيامِ في طينةِ فؤادي، وترصفُ من الكلماتِ الطرقَ التي أسعى إليها، وتختط من مروري عليها عُبورها إلى الذكريات. لم يتبق إلا القليل، شيءٌ يعيد وصليّ بالمكنونِ بعد إذ خرجتُ حاطمًا السُبل التي اختطت من جسدي، أتلمسُ تكوني بالمتكوناتِ، وأنفذُ ببصيرتي إليّ في المختلفات، وأجمعُ جِسمي من المشيداتِ ذات الخواء فتنتفضُ بها الحياة الراقصة من جديد؛ لتنصهر بيّ الحيوات بما فيها من تفاصيلَ وعراقيل، وأشمُ عطر الكلماتِ التي تنبتُ في فؤادي. أذهبُ إلى الحقلِ الذي خرجتُ مِنه بذرتي الأولى، إلى القريةِ التي كتبت وجودي بالوجودِ، وأتلمسُ التربةَ الحانية في أيامِ الصقيع الحالية كيف تختزنُ فيها دفئًا كبيرًا، وألحظ فيها نماءً يأخذني إلى أشكال المدن الكثيرة من حوليّ، كيف خرجت من رحمِ قرى تنمو لمستقرٍ لها في الحضارة والهناء.. لقد نالت رؤاي هذا الحدّ الذي أرى فيهِ نفسي بالنفوسِ الأخرى، وأشهدُ تحوّل وجهي في السحنِ والشواخصِ، كيف يتمدد في رحى النورِ والذاكرة، والآن أصبح الحُبّ هو الحالة الوحيدة التي تفسر كل شيء وتتعرف على كل شيء، فقد ألتم الكون على هدى النارِ التي تخفف قليلاً من أثرِ الشتاء لكنها تُعلق النفوسَ فيهِ أكثر فتبدأ على ضراوةِ البرودة في التخييم، وتلملم شتاتها بالتقرّب من الحطبِ، والذكريات التي تدبُ مشيًا بين الوجوهِ والكلماتِ المسبوكة، ويتنعّم باللحظات الهانئة أصحاب التطلعِ إلى الجمالِ في كل مجال، فيصبحون في غلةِ المشاعرِ الطيبة أكثر حسنًا، وفي رفق العبارات اللينة أوجهَ وأكثر بهاءً، وفي اللقاءِ أخفُ نفسًا وأكثر وقعًا وانعكاسًا.. وأنا الذي كلما مرّ يسير من الوقتِ تلقيتُ دعوةً من الأشجارِ الوفيرة لزيارة الصحراء، وتلمسُ اللطف في الأرجاء المُلبية في صورةِ الربيع أو الشتاء، فإن كان في الأولى طبع أثر خضرتهِ في الكائناتِ التي ترّق فتخالها هبةَ نسيمٍ عليلة تنفذُ إلى النفوسِ مع ما تلقاه من طراوةِ الطقس، وإن كان في الثانية جُعل إقبال الكائناتِ على الدفء صابغًا حياتهم بالألفة، ومنعمًا عليهم بالمسرّة، وطاويًا في النفوسِ العُزّلة والبُعاد، فيصبحون بذاك جسدًا يلمُ إليهِ التفاصيل البديعة. يبدو أن علائقي بالقهوةِ بالحليب، تسحبني إليها، فها أنا أقضي أكثر من ساعةٍ لأشرب قهوتي الأمريكية السوداء، وتعجبتُ كيف لشجرةِ البلوط أن تستعذب القهوةَ السوداء بسهولةٍ فدلفت بصبريّ يفتشُ عن نواحيّ المستسقيةِ بالصلابةِ، كيف تُدر الذكرياتِ كمسيرةِ الشعبانِ التي تسحب إليها الكائناتِ تروم وصلاً بالطبيعةِ؛ بمكنونها الأول الذي يتلقى النمو والإزهار، ويجذبُ إليهِ كل عائدٍ إلى الطينةِ التي تشعشع منها الحياة في أبهى الأشكال والصور، فيسقي المطر بحضورهِ المشاعرَ والنفوس كما يدبُ ماشيًا على البسيطةِ التي تلتحم فيهِ، ويلون المسافات فتطوى في غمضةِ عينٍ، ويصبح الأحباب رئي العين وقرب وتين يتلمس وجودنا باللطافةِ التي تظهر منا.. هكذا أسمع قلبي بالقلوبِ الأخرى، وأستمع إلى صوتيّ في الصورِ الصامتة، وفي زخِ المطر الذي يأتي فيتدافع إليهِ العشاق في المدن و البيادي، وأرى وجهي في الأمصارِ وفي النّاس وقد نّدي في الأفواهِ والجمل، إن سواد القهوةِ ما هو إلا بياضٌ يقهي بنا عن سوى الحُب والجمالِ، وكما قالت شجرة البلوط ذات يومٍ: هي رافعة هرمون السعادة للحالةِ القصوى. ما ألذها، وما أطيب ريحها الذي يصافح الكلمات فتلدَ بديع المعنى حسنًا عبقريًا يدور بنا عن سواهِ، ويأخذ بنا على بساطهِ في مقارعةٍ للنجومِ والسحاب الذي يحمّل فؤاده غيثًا من عشقنا يسقي به الأرض اللهفى، ويجود بمظاهرهِ البديعة على الأحياءِ حين تولد أخرى بلقاء وجهه، وبالتفيض مِن لطافتهِ التي يصطبغ بها الوجود. إن القهوة لسحابة ذات زخٍ مثير، يجعل في الأجسادِ قوة باسْتطابتها، وفي الرؤوسِ خفقٌ لفراقها، لكني لم أر قهوةً خير من الحُب الذي يسعى بالأجسادِ لتزهرَ، ويصافحُ الوجوهَ فتزدان وتظهر، ويلتحم بالأشياء لتصبح بضعةً منه تتمشى جمالاً ودلالاً؛ هكذا لقد شربت القهوة مِرارًا وفيها من الأحبابِ نبعٌ يهبط عليّ واتهابطُ إليه صبابةً يلم أولها التحام آخرها. ** ** - هيثم بن محمد البرغش