ترتسم ذاكرتيّ الفندقيةِ على حدودِ الميزان، الذي يبين ليّ بين فينةٍ وأخرى ما يستوعبهُ جَسدي من الذكريات وتلكَ الأحداث التي تعاود صياغة وجودها مرّة أخرى مع تقلبِ شُعوري تجاه العالم والأشياء؛ لذلك أعيد وزن الوجود بيّ لأراقب زيادة منسوب الشعور والحُبّ الذي يتداعى ليّ من النواحي والأركان ... وتبدو ليّ المدينة والناس وقد ارتدوا شكلاً آخر لم يكن ليظهر لولا وعيهم بهذا التبدل الذي يسري في الكائناتِ جريان النبض في الجسد فها أنا أعودُ إلى حقلِ اليَقْطينات الذي ولدتُ فيهِ، وأستشعر بحواسي القرى التي مضيتُ فيها، والمُدن التي حَنّت للقائي وطعمُ اللبن الذي شربته بينما أحرك لعبةَ السيارة الفاخرة في فناء منزلنا العتيق. ويبدو ليّ وجهٌ للعالمِ لم أكن لأراه لولا التحامِ طينتيّ بثراهُ؛ بلغتهِ التي تسعى في قلبي، وتكوّن كلماتي الملونة. أقرأ وزني الذي يزيد عن المئة كيلو على الدوام، وأتهجى في أرقامهِ الحروف المنبثة في جسدي، والوجوه التي أحبها كيف تتسلّق الشجيرات فيهِ وتنمو مع الثمارِ الحلوة شيئًا فشيئًا؛ إنّي وطنُ الكائناتِ التي أحبها! استيقظتُ مبكرًا قبل الموعدِ المرتقب بدقيقةٍ ونصف، غير أنّي بدوتُ مبكرًا رُغمَ ذاك، لم يطل الصبح مِنْ شرفتي، ولم تشدو العصافير بصوتِ الحُبّ النير بعد ... وهكذا نهضتُ متتبعًا خيطَ نورٍ قد انسلَ من فتحاتٍ ضئيلة في موضعِ المكيف، وهو يمضي برفقةِ الصوتِ الأثير بهِ، هذا الضجيج الذي التحم بالصمت للنخاع يأخذني من تلابيبِ السرير المُنثني كعرفِ شمعةٍ ترقصُ مع هباتِ الهواءِ اللطيفة دائرًا في رُحى الغياب الذي يسحبُ أوراقي من المكنون الضيق للقلوبِ التي تفتشُ عن لغةٍ تحكي عن الذاكرة التي تعمر خوالدها بالصورِ والمواقفِ وهي تتكرر كل قراءةٍ أخرى، وفي كل قراءةٍ تنبعُ من قلبٍ مليء بالتفاصيل والأشياء المختلفة التي تُحرك السكون وتُحيي الأشجان، ها أنا الآن بين أحضانِ النخيل الشاهقة في تمير وعُنيزة أشكل في سحنة وجهي شكلَ الحنينِ الهادئ جدًا ممزوجًا بالنور وخرير الماء الممدود بين السنين يعمرُ هذه الأرض. أحيانًا لا بدّ لنا من الغياب عنا، أن ننسحب من التفاصيل التي تُهمنا ونرتحل للهناء الذي نريد، لذلك أصبحت الصحوة والغفوة محطات للتعرّفِ على الجمال في الحياة. جاء النهارُ على نحوٍ حثيث ليطبقَ بالاستيقاظ الأول نهوضًا آخر، وقد تربعت الشمسُ بخيوطها على يديّ الكتَّابّة ومعها من المؤنِ صوتَ شتاءٍ يبكي القحالة وينادي صوتَ المطرِ في الكلماتِ التي تأخذ من صوتي الذكريات وتبذرها مدىً لحصادِ المعاني الجميلة، هكذا يتربع صوتي في أفواهِ العابرين ومرتادي الأماكن العامة في المدينة وكثيرٌ غيرهم يصبغون صوتي بأشكالٍ كثيرة للحُبّ. أنهيتُ تغلغل يدي في الجُمل التي أُصنّع، ولا يغيب عني عمل الفخارين كيف يجعلون من الطينةِ الملتمة جسدًا أجوفَ يحن إلى طينتهِ الأولى في الماء. قُمت وقد غسلتُ عنيّ بعض الكلماتِ التي أنشأتها لتنبتَ في حديقةِ بيتنا في القريةِ الملتمة نخلةً تنادي وجهي في كل صبحٍ وتُهجع التمر في أفواهِ الزائرين والقاطنين! ** ** - هيثم محمد البرغش