تبدو الرياض وقد أهل عليها العامُ الجديد مكتسيةً بالحمرة التي تصدر من أضواءِ السيارات المتراكمة في جل الطرق، وكأنما الحُب قد اختار هذا اليوم للتمشي في المدينةِ الجميلة التي استقبلت نجاح الطلبةِ مع بدايةِ العالم فزادها زخمًا وزهوًا. وكان في الكائناتِ رغبةً عامة للاحتفالِ، والسير كل حالٍ إلى الفرحِ والسرور، قصدًا ذلك بالجلساتِ الهانئة في المقاهي، واختيار أطيب المطاعم للأكل، فيمتد أثر ذلك على الذواتِ التي تغمرُ في هدى الأماكن الصاخبة بالذكرياتِ وأصوات المخلوقاتِ... وفي البيوتِ التي تتخذ من الوضاءةِ سبيلاً للم شتاتِ الضائعين في ردهِ السلوكِ اليومي للمعاش، أتنفسُ في الزِحام رغبةً الناسِ بالتغيَّر، وهم يستقبلون أيامًا جديدة بشغفٍ كبير، وأشمُ رائحةَ التلاقي الزكية كيف تفوح في الشوارعِ زكاءً وزكاةً لأيامٍ قد خضبت بالجِدَّة، وقد تعانقت ألحانُ الأغنياتِ في المحلاتِ والمركبات، وتراقصت الأرواح على زخِ المطرِ اللطيف الذي جاء ليرطبَ ماضينا مع عامٍ قد رحل، فصار الجو الزاهي مرتديًا بزّة فاخرة من ناطحات السحابِ والعمارات في الرياض، وقد بدت بجلاء مشاركةً الملايين هذه الاحتفالات الزاخرة بالفرح، وقد انتشرت رائحة القهوة في الأرجاء تغسلُ عن الرؤوس الصُداع. بيد أن في الازدحام ثُلةً قد اختارت الركون للصحراء، لتلتقي في جوها البارد صخبًا آخر تصطك بهِ المشاعر الملتهبة في مدى البيداء الشاسع، وتتصور في سمائهِ الوجوهَ والذوات والأصوات وقد ارتسمت في مسرحيةٍ وجودية من التشكّل المحفوف بالذكرياتِ المعجونة بالرغباتِ والطلباتِ التي تبذر في طينةِ الوجود عبقًا من الحياة... فتصبح بتحولاتها واختلافاتها لوحةً عزّ نظيرها من الجمالِ الساحرِ، ويصبح للرياضِ نفوسٌ في أماكن شتى يعكسون صورتها الفاتنة على الأرض. وأنا في رواحيّ المحفوف بالتعشقِ، والثمول إلى الكتابةِ، أعيش في أماكن شتى، وتتمدد روحي بين القرى والمُدن والكائناتِ التي أُحب، فأحس في قلبي ذكرياتٍ قد قُدت من كل حدبٍ تأتي وقد تعطرت من عبقِ اللقاءات والأماكن، فما زلتُ في المقهى أتلقى الرسائل والتهاني من الأشجارِ، وأتسمع عبر الكلماتِ إلى خرير الأنهارِ وغناء الأزهار، وأسفارِ الحياةِ على الحياة، مع أنّي أعرفُ أن لقلبي زمنا آخر لا يعرفُ هذه الأيام، إلا أنّي أجد نفسيّ في كل حين بذورًا في عوالم مختلفة... كان ذلك وقد جالستُ نفرًا من الأحبابِ في أول اليوم وآخره، ما بين اليقطينات الجميلات، وشجرة البلوط، ثمّ القبقب الذي ترك الشواطئ الزاخرة بالمتزلجين والسباحين ليلتمس الضوء في الرياضِ والذاكرة، ويتلقى الحكاياتِ المحبوكة على شعاع النيران المشتعلة، وفسيفساء المعاني المتسلسلة عبر الأصواتِ المبذورة في طينةِ الفؤاد، فقد عرف أنه يومٌ خارج التقاويم العادية، يزهو بالحُبّ الوضيء. أما أنا فما زلتُ أقفز الحواجز بسهولةٍ في لعبةِ الجوالِ التي تخرجني من حدود المقهى؛ لأعيش مع كل شجرةٍ ورفيقٍ في قلبي إلى نهايةِ التاريخ الذي يكتبهُ صوت الأدبِ الذي يزخ مع المطر على الرياض أبهةً عجيبة ذات تصاهر مراد، تبدي الحياة بشكلٍ آخر أشد خضرة وجمالا. ** **