الضحى بالقرى التي أصبح كثيرٌ من أناسها في البيادي والشعبان يرقبون مسيرةَ المطرِ إلى الأرضِ اللهفى، ويتصيدون اللحظاتِ الجميلة في أكوابِ الشاي وفناجين القهوة وبعض الصورِ المشذرة بالأحاديث اللطيفة. استمر روحي في الطرقِ أكثر من المعتاد، وأنا الذي اقتطعتُ مِن مسيري لتناولِ وجبة الافطار والقهوة نزرًا يسيرًا من انغمار شُعوري بالهطول المتتابع للمطر، إذ تكوّن بطئي ليجعل تنعمي بما حوليّ عميمًا عميقًا في لوحةِ الكون المشيد، متأملاً في تبتلٍ طويل. لقد أصبحت رحلتي شكلاً ساميًا للهدوء، فما أحسبها إلا انفتاقًا روحيًا يلمُ أنحاء الذاكرة، ويغسلُ عن شعثها الملمات، ويحطمُ السدودَ التي زرعتها يديّ الوعورة الصخرية في لغتي، واحتدامي مع الأشكال المملوءة بكل شيء إلا الحياة، إذ رأيتُ نَفسًا يعبرها ليحيط بها ضامًا لها بالغيثِ الذي عاود فيها مسيرًا قد استكان إلى المثول. هكذا أمدُ يديّ لشجرةِ امتدادي عبر الوجودِ أجسُ وجوهها وأحضن انبثاثها لمًا إلى صدريّ التربةَ التي انبثقت منها، واللغةَ التي خرجت مسافرة مع الريّاح التي تهبُ مصافحةً الأشجار وبالتغلغل مسافرةً فيها إلى بذارها الأولى بيدي متلاحمٍ مع الطينةِ التي خرج مِنها؛ إنها الحكايةُ التي تعاود صياغتها عبرَ القلوبِ التي ترومُ وصلاً بالحُبّ في سويداء اشعاعها بالنظارةِ الوجودية هذا الاشعاع المنبث من العيونِ انغماسًا بالشعورِ إلى الندى المتقاطر في صميم الفؤادِ يشكلُ جُملاً لا تنتهي عن الجمال. لا بدّ وأن سَفري قد قُلب إلى التحامٍ بالطقس الذي يأخذني في أنحائهِ مطرًا ملونًا بالنور، يشعشعُ بالعِبر والمعاني، ويرسمُ في أحشائهِ أجسادًا ووجوهًا ومُدنًا تنضحُ الحيوات على مدِ البصر، ويهز شجرةَ البصيرة لتساقطَ حِكمًا ووجودًا عمًا بالسكونِ وبالحبور، وأصبحتُ في هدى تضافر المسافةِ المطويةِ بين قُرى سديرٍ أجسُ ربيعها واصبًا إليها من كل ناحيةٍ أتلمسُ نفسي في أنحائها، و ألملم ذاكرتي الممدودة على وديانها وجِبالها وبيوت ناسها الساعين في نخاعِ الوجودِ والتاريخِ الحي في الكلماتِ المحيّكة، وفي الامتداد الملتحم بالتفاصيل التي تأخذني عائدًا للطريق المديد وعلى سجادةِ المطر أتلمسُ الحنايا في صيرورةِ المسير، وأتذوقُ الذاكرات الشاخصة في كوبِ القهوةِ الباردة متحلقةً على مكعباتِ الثلج الملونة ولا يغيبُ عن خاطري صورة الرياض ذات الشهوق السماوي في قلبي، كيف تمتدُ أغصانها عبر الديار بعبقِ الضوء واصلاً كل الديار. مضيتُ على هدى المطرِ، أعلّ نفسيّ السائرة في السحابِ المنتشي بالرمادِ، وفي السراب الذي يكوّن معنىً غائرًا في كبدِ المكانِ يتفتقُ ببلٍ عجيب إلى النصاعةِ والنقاء. رحتُ في مسيري أخيرًا أحييني وألقي التحيةَ على المعاني الشاهقات في ذاكرتي كيف ألتمت بصورةٍ فذة تعلمني أن أُحب الأشياءَ فوق العشق الذي يعتريها عابرًا مِنها إلى الوجود المشع، والحضور الأوسع، الذي يُبنى بالمحبة وإليها يصير. وصلتُ أخيرًا للانهمار المكنون فيّ، للولادةِ الكتابية التي تعاودني مِرارًا لأعيد ملامسة المطر في كل كائنٍ آخر يعاود بيّ الهطول إلى المثولِ الكِتابيّ خارج الحدود والقوالب وفي مكوثٍ عجيب إلى الطهارة. يا عاهل آلام العالمين من الطهر المُبين تنبتُ لغتك الأولى حياةً للحُب وجودًا لا أحلى مِنهُ. ** ** - هيثم بن محمد البرغش