، لا يفصلُ بيننا حد؛ تغيّب ذواتنا في مشهدٍ راحل، لا يريدُ العودة، ومن بذرةٍ نعود إليها، نبدلُ أعضاءنا لغةً تحكي للوجودِ عنا، وتسكبُ وجوهنا في المُدن بروجاً يتنزهُ عليها الضوء، وينعكس. عرفتُ يديّ في اليوم الذي خططتُ فيهِ، غابَ اليومُ في قلبيّ، غابَ قلبي في عشقهِ، وغابَ العشقُ على أناملي الكاتبة، شيء مُتبقٍّ مني في كل شيءٍ أراهُ الآن، تنسحبُ مدن كثيرة من أمامي، وتعود من بوابةٍ خلفيّة لتعمرَ لها وجوداً في ذاكرتي، وكقصيدةٍ مُقفاة تنشِدُ صوتاً يحكي عنها. أمر سريعاً، ولا يمرّ الوقت، الوجوه مجمدة حيثُ تركتها، بابتساماتٍ مُستقاة من سحن مشاهيرٍ في كل مجال، لكن قلبي بات يقرأ في كل حزنٍ فسيلة فرحةً عامرة، وفي كل جرحٍ دواء لا يشقى شاربه بعد ذلك أبداً في آلامه. أرمي ذاتي بكرة المضربِ لتسيح كحباتِ رملٍ في الهواء، تختلط بالعالمِ؛ لتعودَ إليّ أكثرَ جمالاً، وفي كل يومٍ يأتي يدبّ الحسن في أغصانِ وجهي ويتوهجُ ليجذبَ كل آخرٍ إليه. تطوفُ في عيني حروف كتبتها، يستقي منها العاشقون قصيداً طويلاً، فإذا جنّ الصباحُ من الغياب، وراح يطوي وراءه ملاءاتِ الليل، ثم مدّ يديه للوجودِ يصافحه، يأتي وجهي فوقَ الحقولِ التي تُغني نسيماً عليلاً، ثمّ يجتمع الفلاحون ليحيوا بعضهم على القهوةِ المرونقة بحباتِ البلوط، والكرميل المُصفى ينتقونه من متجر الحيِّ الجديد، مع بعضِ الأحاديث وقليل من البسكويت، والبسمات التي تفوح منها رائحة الأزهار المُدجاة بمذاقِ الأرز، ويعمر المكان بالوجودِ الساحر، حتى يمرّ صوتي بالأرجاءِ دفئا، يغطي الكائنات بالبزز الصوفية الفارهة، وبالمعاطف الطويلة، وبالأحذية الجلدية السميكة، وبالربيعِ حينَ يحلّ قليلاً في هذا المرور، وتتفتح الزهور كلها ثم يطوي الصقيعُ لحافه، ويأتي وجهي قارّاً في النفوسِ مُجملاً إياها. جئتُ نوراً، حتى بانَ وجهي للقريةِ شعراً، وخرجتُ من ضلعي عاهلاً لآلام العالمين، أصافحُ في الأطفالِ توقهم، وما صافحتُ في الناسِ إلا طفولتهم، أنطقُ بي، لتعبرَ ذاتي في الوجودِ كياناً يشدّ إليه كل قاصدٍ إليّ، ومن يرنو شربةً من حوضِ الحُب فلا يظمأ بعد ذلك أبداً. يا عاهل آلام العالمين، ارفع يديك ليزهرَ العالمُ من وجنتيك، ثم غُصّ في روحكَ تجد أحلى المعاني المقبلات وقد حلّت في المعاني زهواً لا يُبلغ، وبهاءً لا يُحد.