يحتل السطر الأول مكانة مهمة في تاريخ الأدب الروائي، ليس لأن السطر الأول يؤسس للبناء القصصي، لكن لأنهُ الفخ الذي يقع فيه القارئ دائماً، وباستمرار، يقوده لإتمام الرواية كاملةً. ولا نستطيع فهم قيمة ذلك إلاَّ إذا حاولنا أن نتأمل بعمق معاني السطر الأول في رواية بعنوان «آنا كارنينا»، للكاتب الروسي ليو تولستوي، المنشورة عام 1877، حيث تبدأ ب: «كلُ العائلات السعيدة تتشابه، وكل العائلات التعيسة تعسةٌ بطريقتها الخاصة». هل تستطيع السينما أن تجسد هذا السطر؟ وكيف؟ تستطيع السينما أن تستعين بخاصية إظهار الكلام مكتوباً على الشاشة، وهكذا كانت افتتاحية كثير من الأفلام في فترة الخمسينات الميلادية، وما قبلها، ولكن المخرج السينمائي العظيم يستطيع تجسيد المعنى عبر خلق الأثر في نفوس الجمهور دون الحاجة لإظهار هذا السطر مكتوباً على الشاشة. فالسعادة تدل عليها كثير من الخصائص المشتركة مثل الابتسامة والفرح والإحساس العميق بالراحة النفسية، أما التعاسة لا يمكن حصرها في حالة واحدة، ربما تكون التعاسة بسبب الفقر، وربما بسبب الغنى، وربما ليست بسبب الفقر ولا بسبب الغنى، ولكن لسبب آخر أكثر تعقيداً، وهلم جراً. في عام 2012، استطاع المخرج الإنجليزي جو رايت أن يقدم فيلماً يضاهي جماليات «آنا كارنينا» الأصلية، واضعاً السينما في أعلى قمة الهرم الإبداعي التعبيري، فللرواية اقتباسات كثيرة مسرحية وسينمائية، وهي تجسد ذروة الفن الروائي، وأحد أهم الروايات بالتاريخ. وبالمقابل يجسد اقتباس جو رايت للرواية مزيجاً من كل الإبداعات البصرية والسمعية والحركية، باعتبار السينما لغة بصرية وسمعية وحركية، ولكن أهم خصال الفيلم أن جو رايت يقدم نموذجاً على المسرح دون وجود الجدار الرابع. النقطة التي تجعل كثيراً من الناس ينفرون من المسرح هي وجود الجدار الرابع، وهي تعني وجود جدار وهمي يفصل بين الجمهور وكل ما على خشبة المسرح، مثل السترة التي تقفل بها المسرحية، ولكنها سترة متخيلة، فلا يعترف الممثل المسرحي بوجود الجمهور، ويتخيل الجمهور أن الأحداث فوق خشبة المسرح تقع في أماكن مختلفة، لكن المشكلة أن مسألة الزمان والمكان مقيّدة في المسرحية، لا يمكن تبديلها وتغييرها بسهولة، أو بمعنى أدق لا يمكن التلاعب بالزمان والمكان مثلما تتلاعب السينما بهذين العنصرين، لذا ظل المسرح سجين خشبته التي لا تتغير، ولا تتبدل بلمح البصر، ومن هنا كان المسرح مزعجاً لبعض الناس وأنا منهم. وظل المسرح لسنوات يحتل المعنى الحقيقي لارتباط الفنون مع بعضها من أدب وشعر وإضاءة وأزياء ورقص وإيماء وتمثيل، فكان هو الوسيلة الوحيد التي تمثل ذروة هذه الفنون، لذا لقب المسرح بأبي الفنون، ولكن السينما تقدم النموذج الأفضل من المسرح لذا لقبها المخرج السوري محمد ملص بأم الفنون حيث انبثقت منها فنون حديثة، وغيرت السينما كينونة كل الفنون القديمة التي سبقتها. اتخذ جو رايت المسرح كموقع لأحداث رواية «آنا كارنينا»، فقدم المسرح عندما يتحرر من كل عقداته على مستوى الشكل، أما على مستوى القصة فيتميز الفيلم بإظهار معنى التعاسة المذكورة في افتتاحية الرواية، حيث دخل الفيلم عميقاً في صدر آنا كارنينا، وأظهر داخلها وخارجها، وتنقل بين الاثنين بسلاسة، واستطاعت الممثلة أن تقدم أداءً مذهلاً فجسدت ذات الهووس التي تعاني منه آنا كارنينا، وجسدت قيمة الحب، ومعاني ضياع الحب، والانهيار، وجسد زوجها بأداء مذهل معاني الرحمة، والمغفرة، وإعطاء الفرصة الثانية، حيث يصف صدره أنه ممتلئ بالسعادة، فلا يريد أن يغير السعادة إلى غضب، أو ثأر، ويقول أيضاً: «إن الإنسان ما لم يمر بظروف قاسية في حياته، فلن يُقدر قيمة المغفرة، ولن يعلم أنه يتحتم عليه أن يغفر». ** **