قبل أسابيع قليلة حلت الذكرى المئوية لولادة لوكينو فيسكونتي، كما تحل هذه السنة أيضاً الذكرى الثلاثون لوفاته. هو أحد ابرز رواد الواقعية الإيطالية في السينما، واحد كبار سينمائيي العالم على الإطلاق. وصادف يوم ولادته يوم الأموات الذي يحتفل فيه الكاثوليك من كل سنة، وهو اليوم الذي قدمت فيه اوركسترا ديللا سكالا الشهيرة في ميلانو أول عرض لرائعة الموسيقار فيردي اوبرا"لاترفياتا". يقول فسكونتي عن حياته:"نعم جئت من عائلة ثرية، وكان أبي من أرستقراطية عريقة، يحب الموسيقى والمسرح والفن، كنا ستة اخوة، وكانت العائلة تتمتع بسمعة طيبة للغاية وبتربية متحفظة راقية الا انها صارمة، لكنها قدمت لأبنائها كل ما من شأنه ان يساعد في تذوق الفنون وبخاصة الموسيقى والمسرح والفن التشكيلي. لقد نشأت وترعرعت في أحضان خشبات المسرح في ميلانو، وكان لنا مسرح صغير، ومن بعدها جاء مسرح ديللا سكالا الذي كان في بدايته مسرحاً خاصاً للجد ومن بعده العم، وكانت أمي من عائلة بورجوازية اهتمت ببيع المواد الطبية، وحتى نهاية حياتها ثائرة على التقاليد القديمة متعلقة بمحبة الحياة العصرية الجديدة". ثنائية الموت والحياة، السقوط والصعود، المكان والزمان، كانت هاجس هذا المثقف الأرستقراطي النبيل الذي ظل حتى آخر أيامه، واقعاً تحت تأثير أفكار ماركس وغرامشي، على السواء، وهما شغلاه منذ صباه وحتى يوم وفاته في 17 آذار مارس 1976 بعد ان ظل مقعداً على كرسي سنة كاملة لينجز آخر أفلامه"البريء"والذي عرض بعد وفاته مباشرة. هو فنان ومفكر في آن معاً، كان تأثيره عميقاً في تطور الفن السابع، وقد اعتبره النقاد السينمائيون، الصورة الجديدة المعبرة عن الاتجاهات الجديدة للسينما العالمية بعد الحرب العالمية الثانية. هو الذي احدث ثورة جمالية وتعبيرية داخل تيار الواقعية الجديدة، كما ان طريقة عمله الفني المبدع ومعالجاته في كل من السينما والمسرح والأوبرا غيرت المفاهيم الدرامية وجددتها. اعتمد وحدة النظرية مع الممارسة الفكرية كمحور ومركز ارتباط لتحليلاته وأعماله الفنية في السينما التي اخرج فيها 17 فيلماً روائياً رائعاً، وللمسرح الذي قدم فيه 28 مسرحية لكبار المؤلفين العالميين، والاوبرا التي قدم لها 160 عملاً أوبرالياً داخل ايطاليا والعديد من عواصم الغرب. كان فناناً حقيقياً ينتقي من الأشياء والناس لغة رمزية تمتلك الأشياء والطبيعة والأشخاص لتخلق لها أسبقية أساسية باعتبارها رموزاً للغة بصرية جديدة. أراد فيسكونتي على الدوام ان يقول ان الفيلم، الذي يخلق رموزه من أشياء الواقع ويحولها الى أسلوب تعبير من طريق إقامة العلاقات"المونتاجية"الفكرية في ما بينها، لا يحتاج الى قاموس لان أشياء الواقع ومواضيعه اللانهائية هي القاموس الوحيد الممكن للكتابة السينمائية. تأثير رينوار تعرف في باريس بعد هربه من مطاردة السلطات الفاشية، الى الفنان المخرج الفرنسي جان رينوار فاصبح مساعداً له ليحققا معاً العديد من الأفلام الروائية والوثائقية. الا انه وبعد عودته الى إيطاليا عام 1942، سرعان ما اصطف مع تيار الواقعية الإيطالية في انعطافها نحو الواقع لتلتقطه، وهي تمجد قيمة الإنسان، وتؤكد حقه في الحياة الكريمة، وتؤكد أحلامه المشروعة في الحرية والعمل والحب والمستقبل، ولتقيم المحاكمات، وتعلن الاتهام، وترفع شعار الرفض والاحتجاج، بأساليب سينمائية جديدة متميزة، ساخنة، تبهر العالم، وتجذب جمهوراً واسعاً، من خلال اقترابها من الوثائقية اكثر منها سينما روائية. باعتمادها التصوير في الأماكن الطبيعية وبين الناس العاديين، واستغنائها عن الممثلين المحترفين، وابتعادها عن الحوارات المنمقة والمفخمة. انه ينتمي بأفلامه الى لغة سينمائية جديدة، تبتعد مما هو مألوف ومعتاد، وتخترع إيقاعات تضرب بقوة جدار المخبوء داخل النفس البشرية. لقد احدث شرخاً أساسياً عير معهود في صناعة السينما لينتقل بها من عالم الأحلام الوردية الى الواقع. قال وهو يساند حركات الاحتجاج ومؤيداً الثورة الطالبية عام 1968:"لقد أخرجت فيلم"الملاعين"للأجيال التي لا تعرف كيف كانت النازية تتصرف وتنمو. يجب ان تعرف الشبيبة العالمية ان غياب المقاومة الاحتجاج والاعتراض، هو الذي يخلق الشيطان الأسود في حياتنا". لقد اهتم هذا الأرستقراطي بالواقع وحياة الناس ومطاليبها اليومية، تحت تأثير دراساته المتعمقة لفكر مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي انطونيو غرامشي بعد عودته مباشرة من باريس، واصبح يؤمن بنظرية غرامشي حول المثقف العضوي الذي يعني ارتباطه الحقيقي وغير المزيف بالجماهير الصاعدة. في البداية كان مأخوذاً بفكرة المخرج رينوار الذي نصحه بتحويل رواية"ساعي البريد يطرق الباب مرتين"للكاتب الأميركي جيمس كين، بعد ان اصطدم برفض الرقابة إجازة مشروع فيلمه"الأرض تهتز"عن رواية أحد ابرز رواد الواقعية الإيطالية في الأدب جوفاني فيرغا، حيث كان الفاشيست في آخر أيامهم توصلوا الى التخبط والتضييق على الأفكار الجديدة، يشجعون كل ما هو تبسيطي ونفعي وغائي للأفكار والقيم والمفاهيم وتوظيفها بهذا الشكل أو ذاك لخدمة نظامهم، وشخص واحد، هو رئيس الدولة. وبتأثير سيطرة الواقعية الجديدة على الثقافة الإيطالية على شكل اتجاهات ومواقف وأفكار، على صفحات الجرائد والمجلات الأدبية والفكرية والتي قادها كل من فيتوريني، وفيرغا، وبافيزي، وكورادو الفارو، والبيرتو مورافيا، وبيبو فينوغليو... الخ والتي بزغت أفكارها وطروحاتها، منذ البدايات الأولى لأربعينات القرن الماضي، جنباً الى جنب ما قدمه عدد من المخرجين الإيطاليين امثال سولداتي وبوجولي ودماركي وكابونا وبلازيتي، ودي روبرتيس، الذين ارتبطوا بتنظيمات ثقافية معارضة لتوجهات النظام آنذاك، وكانوا يكتبون في مجلتي"سينما"و"اسود وابيض"السينمائية انتقاداتهم، وتزامن ذلك مع ظهور مجموعة من الأفلام الواقعية المغايرة لما يطرحه مثقفو النظام الفاشي، أمثال فيلم دي سيكا"الأولاد ينظرون الينا"وپ"تريزا يوم الجمعة"وكذلك افلام بلازيتي"أربع خطوات بين الغيوم"وپ"رجال في العمق"لدى روبيرتيس وغيرهم، حمل فيسكونتي الى الشروع بإخراج فيلم"الوسواس"المأخوذ عن رواية"ساعي البريد"ليجسد فيه متطلبات الواقعية الجديدة، متأثراً بأستاذه الفرنسي رينوار. وبعد اندحار الفاشية مباشرة عام 1945 شرع فيسكونتي تحقيق حلمه بإخراج فيلم"الأرض تهتز"عن رواية فيرغا الذي يتحدث عن ثورة لعائلة من الصيادين الصقليين ضد مستغليهم متأثراً بأجواء الواقعية السوفياتية في صناعة الأفلام. ثم بدأ فيلمه الشاعري"الأجمل"عن رواية كتبها الأديب الشيوعي شيزار زافاتيني ومن ثم فيلم"الحس"عام 1952 الذي جمع به عوالم المسرح والأوبرا والسينما معاً، يصور به السقوط والأنانية في النفس البشرية". وبعدها جاء فيلمه الشاعري"الليالي البيض"1957 عن إحدى روايات دوستويفسكي"وفيلم"روكو واخوته"1960 في شكل حداثي عن السقوط بعيد عن أساليب الواقعية الجديدة، وكانت بطلته الممثلة القديرة آنا مانياني التي قامت بدور الأم. أما فيلم"الغريب"فجاء عام 1967 وهو مقتبس من رواية للكاتب الفرنسي البير كامو بالاسم نفسه، حيث حيرة الإنسان النامي وقلقه وسط تناقضات الواقع السائر نحو الجحيم. فهد ايطالي أما فيلم"الفهد"عام 1962 الذي يعتبره العديد من النقاد العالميين الأفضل والأجمل بين كل ما أنتجته السينما الإيطالية طيلة تاريخها الطويل، قام ببطولته بيرت لانكيستر، وآلان ديلون، وكلوديا كاردينالي، فهو مأخوذ من رواية الكاتب الايطالي جوزيبي دي لامبدوزا. بعد ذلك انجز فيسكونتي رائعته"الملعونون"التي تدور أحداثها أثناء الحقبة النازية وطموحات السلطة، والرغبات المجنونة، والقتل واغتيال الحب، وبالتالي سحق كل من يعترض الطريق. أما فيلمه الشاعري الرائع"موت في البندقية"1971 عن رواية بالاسم نفسه للكاتب توماس مان، التي كانت في بداية صدورها عام 1911، بمثابة بداية وفاتحة لاقتراب الكاتب نحو الانتماء للتقدم، فهي تعبير عن المأساة الفردية باعتبارها نتاجاً لواقع اجتماعي لا يهيئ الا للانهيارات النفسية والاغتراب الذاتي، إنها أزمة وعي وانحدار فردي بمواجهة عالم ساحق. لقد أبدع فيسكونتي بتحفته السينمائية التي حاول فيها مقاربة الرواية، التي قال عنها بعض النقاد السينمائيين انه استطاع ان يلتقط اكثر من كاتبها حركتها الكاملة من خلال تناوله زاوية التنقيب عن مداها وعوالمها المعقدة والمرتبكة، في الإفصاح عن الجمال الجسدي، حيث ان جسد الصبي"تاديسو"وملامحه وهدوءه العظيم وكبرياءه الوادع، صورة تبعث على التجربة الأكثر محسوسية في النفس البشرية. بعدها قدم رائعته"لودفيك"أو"غروب الآلهة"1972، ثم فيلم"عنف وعاطفة"1974، قبل أن يحقق في عام موته آخر أفلامه"البهائي"عن رواية لدانونزيو.