قد لا يكون فيلم "آنا كارنينا" الذي حققه الاميركي برنارد روز عن رواية ليون تولستوي، فيلماً كبيراً وخالداً، لكنه عرف على الأقل كيف يزود السينما الفرنسية، والعالمية ربما، بنجمة استثنائية جديدة هي صوفي مارسو، التي تدخل هنا صف الكبار على خطى غريتا غاربو وفاتن حمامة، في دور تحلم به من دون شك كل نجمة كبيرة من نجمات السينما. هنا صورة جانبية لصوفي مارسو بعد دورها في "انا كارنينا" وقبل دورها المقبل في "ماركيز" الذي يروي قصة ممثلة فرنسية احبها، ذات يوم، موليير راسين وكورناي معاً! ما هو القاسم المشترك بين غريتا غاربو، فيفيان لي، فاتن حمامة، انا ستازيا فرتينسكايا وصوفي مارسو؟ آنا كارنينا، الشخصية التي ابتكرها خيال ليون تولستوي ذات يوم، ليجعلها واحدة من أشهر شخصيات رواياته، وواحدة من اشهر الشخصيات النسائية في تاريخ الأدب العالمي. فالحال ان كل النجمات اللواتي ذكرناهن لعبن دور آنا كارنينا على الشاشة في أفلام مقتبسة من رواية تولستوي، بل ان غريتا غاربو لعبت الدور مرتين: مرة في فيلم صامت أخرجه ادموند غولدنغ، ومرة في فيلم ناطق اخرجه كلارتس براون. غير ان هذه النجمات لم يكنّ الوحيدات اللواتي لعبن آنا كارنينا، هناك عشرات غيرهن. فالسينمائيون وجدوا على الدوام ما يشدهم الى تلك الرواية الغرامية الخالدة التي تحدث عنها مؤلفها مرة محاولاً تعريفها باختصار فقال: "هي حكاية امرأة متزوجة تقع في غرام ضابط في الجيش وتنتحر". وأحداث ذلك الغرام والانتحار الذي تلاه، جرت في احضان المجتمع القيصري الرفيع في روسيا ما قبل الثورة عند نهاية القرن التاسع عشر. ولئن كان الموضوع ومناخه يبدوان عاديين فان قلم تولستوي عرف كيف يجعل منهما قمة من قمم الأدب الروسي. بالنسبة الى دور آنا كارنينا، عرف عنه دائماً بأنه صعب، يكاد في صعوبته وتعقده يوازي دور إيما في رواية وأفلام "مدام بوفاري، ومن هنا فإن السينمائيين اعتادوا ان يسندوه اما الى نجمة وصلت الى قمة عطائها، وإما الى ممثلة استثنائية الموهبة. ومن هنا فإن مجرد اختيار المخرج الاميركي برنارد روز لصوفي مارسو لكي تلعب هذا الدور في الاقتباس الجديد لرواية تولستوي، يعتبر اشبه بتكريس حقيقي لهذه الفنانة الشابة، التي كانت شخصية المراهقة التي لعبتها في "البوم" لا تزال تطغى عليها حتى الآن وتجعلها تعتبر على الدوام طفلة مدللة في مسار السينما الفرنسية. صوفي مارسو، بعد "آنا كارنينا" صارت بالتأكيد شيئاً آخر، صار بإمكانها ان تزعم مضاهاة كبيرات السينما الفرنسية الراهنة من كاترين دونوف الى ايزابيل آدجاني، ومن جولييت بينوش الى ايزابيل هوبير. صحيح ان الفيلم الاميركي الجديد لم ينل ثناء النقاد او اجماعهم ولا سيما في فرنسا، ولكن صوفي مارسو نفسها "نفذت بجلدها" من بين العاملين في الفيلم، ووجدت لدى النقاد ترحيباً، جعلهم ينتظرون بفارغ الصبر استكمالاً للتكريس عبر دور آخر لا يقل أهمية تلعبه صوفي في فيلم فرنسي جديد يتوقع ان يكشف عن موهبتها اكثر مما عن جمال وجهها وجسدها. هذا الدور هو دور الممثلة "ماركيز" في فيلم يحمل الاسم نفسه. وماركيز هي واحدة من اشهر ممثلات فرنسا في زمن موليير، وكان هذا واقعاً في هواها هو وراسين وكورناي في آن معاً، وأتى موتها بشكل غامض بعد عام من تأديتها للدور الرئيسي في مسرحية "آندروماك" ليفجر فضيحة كبرى في فرنسا لويس الرابع عشر. فيلم "ماركيز" سيعرض في فرنسا بعد أسابيع قليلة، ويقول الذين تابعوا العمل في الفيلم أنه، حتى إن لم يكن بالامكان اعتباره فيلماً جماهيرياً كبيراً، فإنه على الأقل سوف يحقق لصوفي مارسو انطلاقة اساسية. مراهقة حتى الأمس القريب في انتظار ذلك يتدافع المتفرجون اليوم لمشاهدة "آنا كارنينا" ويدهشون كيف صارت مراهقة السينما الفرنسية ذات الجمال الطيب امرأة ناضجة بكل معنى الكلمة، مع انها بالكاد تجاوزت الثلاثين من عمرها هي المولودة اواخر العام 1966. قد تكون صوفي اليوم في الثلاثين وأكثر، لكنها حتى الأمس القريب، وقبل آنا كارنينا مباشرة كانت لا تزال مراهقة. مهما يكن فإن صعود هذه الفنانة الشابة بدأ في العام 1980، حين كانت في الرابعة عشرة من عمرها. يومها قدمها المخرج كلود بينوتو في فيلم "البوم" الحفل الراقص الذي حقق نجاحاً كبيراً من خلال حكاية مراهقين وغراميات الطلاب. وسرعان ما تبعه جزء ثان. وكمنت اهمية الفيلمين في كونهما، يومها، جاءا للتعبير عن ظاهرة اجتماعية: ظاهرة بروز جيل جديد من المراهقين، لا علاقة له بأحلام ونضاليات جيل الستينات، او بخيبات جيل السبعينات. بدا الجيل الجديد، تحت ملامح صوفي مارسو، صحياً سليماً معافى لا هم له سوى ان يعيش الحياة بحلوها ومرها. ولأن صوفي مارسو مثلت، وهو امر نادر في السينما الفرنسية، دور فتاة تشبهها ولها عمرها. كان نجاحها كبيراً ولفتت الانظار، بحيث ان المرء إذ يتذكر ذينك الفيلمين الآن، يتذكر صوفي مارسو فيهما اكثر مما يتذكر أي شيء آخر. بعد ذلك عملت في أفلام مهمة، ومع مخرجين كبار... لكنها ظلت على الدوام تبدو تحت صورة المراهقة. ففي فيلم "بوليس" من اخراج موريس بيالا، او "شوان" من اخراج فيليب دي بروكا، وفي الافلام الثلاثة الأولى التي مثلتها تحت ادارة البولندي الأصل زولافيسكي، وأبرزها "لياليّ اجمل من نهاراتكم" و"النوتة الزرقاء"، ثم خصوصاً في "التلميذة" حيث حاول كلود بينوتو في العام 1991 ان يعيدها الى اجواء بداياتها، كان من الواضح ان صوفي مارسو قد اضحت امرأة... ولكنها كانت على الدوام امرأة طفلة. اذ كان ثمة في استدارة وجهها ونقاء عينيها واكتناز شفتيها ما يدفع الى التعاطي معها وكأنها لم تخرج بعد من المراهقة. وحتى في فيلم مكتمل مثل "حصن ساغان" من اخراج آلان كورنو، عن رواية لوي غارديل، لم يتمكن دورها كامرأة ناضجة في الفيلم، من اجتذابها الى صف النساء. صحيح ان صوفي مارسو في كل تلك الأفلام كانت تتسم بمسحة رومانسية لا شك فيها، وكانت عبر تلك المسحة تخترق الشاشة لتدخل قلوب متفرجيها، وكان النقاد منذ البداية اعتادوا على ان يروا فيها أملاً جديداً للسينما الفرنسية. ومع هذا كان عليها ان تنتظر الدور الكبير، الدور الذي يحولها من امرأة ناضجة، الى امرأة مشتهاة. ومع آنا كارنينا كان هذا الدور... ومن المؤكد ان "ماركيز" سوف يكون الخطوة التالية. ولكن ما هي حكاية صوفي مارسو مع دور آنا كارنينا؟ في البداية تقول الحكاية ان صوفي، حين كانت في لوس انجليس قبل سنوات شاهدت الفيلمين اللذين قامت فيهما غريتا غاربو بدور آنا كارنينا فأولعت بالدور، وعادت الى الرواية تقرأها مرة بعد مرة، ثم جلست تنتظر من يعرض عليها لعب الدور بصبر وأناة. هذا ما تقوله الحكاية، غير ان صوفي مارسو تقول اليوم ان المسألة اعقد من هذا بكثير "من جهة، شعرت حقاً بالرضا يوم شاهدت الفيلمين، بل شعرت ان الفيلمين اجمل من ان يدفعاني الى توقع ان أقوم انا نفسي بالدور ذات يوم. ومع هذا داعبني يقين مدهش، لست ادري من اين جاءني، يقول لي بأنني سوف اقوم بالدور. وهكذا، وبكل بساطة، حين علمت ان ثمة تحضراً لتصوير فيلم جديد عن "آنا كارنينا" بادرت انا بنفسي الى الاتصال بالمخرج. كانت جرأة فيّ استغربها الكثيرون. والأدهى من هذا انني آثر اللقاء مع المخرج بتّ على يقين من انني سوف لن احصل على الدور ابداً. او على الأقل شعرت انني انا شخصياً لم أعد راغبة في تمثيله. صحيح اننا تناقشنا ساعات طويلة واتفقنا على ان قيامي بالدور فكرة رائعة، لكني كنت أود مغادرة الولاياتالمتحدة في الوقت نفسه، وبالفعل سافرت وغيرت فكري معتذرة عن عدم القيام بالدور". حسناً، فماذا بعد ذلك؟ تقول صوفي "بعد ذلك غيّرت رأيي من جديد وأبلغت المخرج بأنني أود تمثيل الدور فأبدى سروره وقمت بالدور كما ترون... مستخلصة من كل هذا فكرة اساسية عن الكيفية التي يحول بها الواقع احياناً دون تحقيق الاحلام". اذن، اذا صدقنا رواية صوفي مارسو، ستكشف لنا هذه الحكاية الصغيرة كيف ان العجز عن اتخاذ القرار بسرعة وحسم هو واحد من سمات هذه الفنانة. وهذا ما يغر بها اكثر وأكثر من دور آنا كارنينا نفسه. فهل ان العجز عن اتخاذ القرار يعتبر سمة من سمات شخصيتها؟ "ابداً، تقول صوفي اليوم، ربما كان نموذجاً على الاسلوب الذي اتصرف به. فأنا في العادة اضع الكثير من الامور في رأسي، ثم احاول ان أديرها وأن احسبها ولكثرة ما افعل تراني دائماً على وشك ان افقد البوصلة". ولمناسبة الحديث عن سمات شخصيتها اذا سألت صوفي مارسو عما اذا كانت توافق تولستوي على ما قام به في رواية "آنا كارنينا" من وصف الهوى على انه فاجعة لا مفرّ من حدوثها، تقول لك بكل بساطة وكأن الامر لا يتعلق بها شخصياً: "الأمر يتعلق بطبيعة الأفراد انفسهم. هناك اشخاص يحبون ان يحرقوا اصابعهم وهذا امر جدير بالاحترام طبعاً. وهؤلاء يذكرونني عادة بأولئك الذين يحبون ان يعيشوا في الليل ويجازفون بارتياد عوالم الظلال والظواهر. اما انا فإني على العكس من ذلك تماماً: انا احب الشمس وأحب ان اعيش في النهار. احب ان أرى الاشياء والناس في النور احب الثبات على المدى الطويل. فمثلاً انا لا اعتقد ان الهوى يجب ان يكون قصير المدى. فالحب، الحب الكبير الذي اعيشه مثلاً، هو الحب الذي يقاوم مرور الزمن". هل معنى هذا ان صوفي مارسو تضع نفسها هنا في تناقض مع شخصية آنا كارنينا التي اعطتها وتعطيها هوية ومجداً جديدين؟ على الاطلاق. كل ما في الامر ان صوفي مارسو التي صرحت ذات يوم بأنها تفضل ان تكون قريبة من الملاك بأكثر مما تفضل ان تكون قريبة من الوحش او الشيطان، تستطرد حديثها اليوم لتقول "بكل صراحة، لست اعتقد انني طاهرة او احب ان اكون طاهرة الى الحد الذي تعتقدون. كل ما في الامر ان الحديث عن هذا كله يسليني اكثر مما يعنيني. في ايامنا هذه يطلب عادة من النجوم ان يتحدثوا علنا عن حياتهم الجنسية. وهذا ما لا اوافق عليه ابداً. فأنا لا احب ابداً ان أسأل الآخرين عما يخفون. انا ايضاً لديّ اشياء كثيرة اخفيها. ولكن لماذا سيكون عليّ دائماً ان انشر غسيلي القذر؟ لماذا سيكون عليّ ان اشرك الآخرين في معرفة ما هو حميمي بالنسبة اليّ؟ حينما أقرأ في مجلة، مثلاً، سؤالاً موجهاً الى القرّاء، يتعلق بالنجم او النجمة التي يحبون قضاء ليلة معه او معها، أشعر بأن ثمة من يخدشني ويهاجمني في عقر داري وحميميتي. لماذا لا يُسألون، مثلاً، عن النجم الذي يودون ان يهدونه باقة من الورد؟". هذا كله لا يمنع صوفي مارسو من التصريح، ليل نهار بأنها، في هذه الأيام، امرأة عاشقة ومخلصة لمن تحب. والذي تحبه هو زوجها الذي انجبت منه طفلها الأول فصارت اشهر "ام مراهقة في الحياة الفنية الفرنسية في هذه الأيام" حسب ما كتبت احدى المجلات الشعبية. وحين تسأل صوفي عما اضافه الحب الى حياتها تقول انه اضاف اليها الكثير. والدليل؟ الدليل هو "انني مكتفية كلياً بالرجل الذي احب، وبالطفل الذي انجبت". ثم ان الحب، بالنسبة الى صوفي مارسو، هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا نفهم العزلة ونقدرها حق قدرها". مهما يكن فإن صوفي مارسو عرفت في الاوساط الفنية الفرنسية بعزلتها وبإيثارها الابتعاد عن الاضواء وهو امر لا تنكره ولا تحاول لا ان تبرره ولا ان تعتذر عنه "فأنا لا أرى في العزلة ما يدعو الى الحزن" تقول صوفي مبتسمة وتضيف "اذا كان حدث لي في الماضي ان عرفت ساعات عزلة حزينة ومؤلمة، فإن هذه ليست حالتي اليوم. فحين يكون المرء سعيداً، تصبح عزلته عزلة سعيدة ولذيذة. حين كنت في الخامسة عشرة من عمري كنت اخرج كل مساء مع اصدقاء ورفاق، انما من دون ان ادرك ان ذلك كله كان يضجرني. اليوم احب ان اجد نفسي في غرفتي وفي وحدتي بعيداً عن عالم اشعر انه رهيب ومرعب". الصورة الاصح غير ان عزلة صوفي مارسو ورغبتها الدائمة في ان تظل في غرفتها مع رجلها وطفلها لا يمنعانها من السفر والتنقل الدائمين "فأنا احب، تقول صوفي، ان اغير الاماكن باستمرار. احب ان افلت من العادات والروتين. والغريب في امري انني اشعر انني في وطني حين اكون في وارصو او غيرها بأكثر ما اشعر حين اكون في باريس. ومع هذا، حتى هناك تراني لا احاول الخروج أبداً". ترى، هل تحاول صوفي مارسو بكل هذه الصور التي تعطيها عن نفسها، ان تنسف الصورة التي بدأ الجمهور يكونها عنها بعد ان شاهدها تلعب وبحب، دور آنا كارنينا؟ من الواضح هنا ان الصورة التي ترسمها صوفي مارسو لنفسها وهي في بداية العقد الرابع من عمرها لا تشبه ابداً صورة آنا كارنينا، لكنها كذلك لا تشبه صورة "ماركيز" في فيلمها المقبل. فهل ان كل ما تقوله صوفي يطلع من استراتيجية مدروسة تحاول عبرها ان تنسف اية محاولات قد تقوم للربط بينها وبين شخصياتها. ام انها، في حقيقة الامر، صادقة في ما تقوله، وتحاول ان تظهر حقيقة الفوارق بين صورة النجمة في حياتها العادية وصورتها على الشاشة. يصعب التكهن، منذ الآن بأي الجوابين هو الصحيح. لكن الذين يعرفون صوفي مارسو عن قرب يعرفونها عاقلة، حسابية، تزن كلماتها بدقة. وبالتالي يعرفون أي النساء هي