منذ العام 2012م, الذي شهد (رحيل حصة), الأنثى غير المعتادة, والمتعبة من واقع مجتمع رعوي, لا يقف إلا في صفٍّ لا تصطف فيه سوى العادات والدعاية وأمجاد القبيلة, ومجتمع آخر بسيط, يمتهن الزراعة, لا يقل تأخرًا في نظمه وأعرافه الحضرية بواقع قياس ذلك الزمن. درجت حصة كرواية تاريخية ترصد «انثربولوجية» الأسلوب الوجودي لحياة المرأة, في زمن قبل النفط على مدى عشر سنوات من ألألم المعتصر على «شفاه الصبايا» نهاية القرن التاسع عشر الميلادي -منذ ذلك العام- لهذا اليوم الذي يشهد هو الآخر إلقاءها أو طرح «عباءة سوداء», الرواية الثانية للدكتورة فضية الريّس التي عز عليها أن تعزف إلا على لحن الحزن والمواقف المفجعة الواقفة والمختزلة بكل معاني الأسى في ذاكرة الصبايا من الخيبات, وأن تظل تعيش بعد ذلك موجوعة جراء الصراعات وسقوط المبادئ والانحياز لقوى الشر, فكتبت عن «الذات» وتحزّمت بها الدُّرع, لتجعل منها سلاح مقاومتها في وجه كل ما يحيط بها من التناقضات أمامها, وتصد بها خيبات عُرى الرجاء وتقطّع حبال آمال طالما وثقتها وعاشتها مع أشخاص تعتقد أن مبادئهم لا تزعزع لكنها وجدتهم كما الآخرين, وقفوا مع القويْ حتى وإن كان على خطأ. حساسية الفقد المتفاقم في إصداراتها ناجم عن مساحات واسعة لها رائحة الدم, غير أنها لم تجعلها باخعة نفسها من شَدَهِ مشاهد عاشتها بطلتها الثكلانة, وصاحبات مكلومات محزونات حركتهن ببراعة وسط شخوص الروايتين «رحيل حصة وعباءة سوداء», لم تنشج وتُشاجب حرارة الدّمع مُتسربلة أسمال أوجاعها تتلقف أوبال البلية ولم تتوارَ خلف (مقناة قلعة مارد), تستمد ظِلالاً باردة في مكان تضمن ألا تصلها شمسه. تحركت من منطلق إيمانها بالضوء.. فكرها المشعشع يعي أن «نور الشمس ل«فضية الريس» لم تكتف بنور الشمس المنبعثة من فجر التاريخ والبطولات والأمجاد الذي وجدت فيه ذِكر لجداتها البعيدات في المنطقة «ملكات العرب في القرن الثالث الميلادي ( أدوماتو/ دومة الجندل), حين صمدت قلعتها المنيعة العصيّة أمام «زنوبيا: تمرد مارد وعز الأبلق. هاهو تاريخ النساء هنا يُكتب من جديد في أعمال الروائية الدكتورة «فضية الريّس» الذي فضلت أن تكشف عنها في أول ظهور صحفي خصته «للمجلة الثقافية», مطلقين عليها لقب «ملكة الإبداع الجوفي» بعد أن زينت سماء الجوف نجمتين الأولى بعد «رحيل حصة» والثانية سَمّتْها «عباءة سوداء». أكدت الدكتورة فضية ثاني الريّس: إن الصراعات التي عانتها كثيرًا والخيبات جعلتها تصطدم بواقع مرير كشف لها أن الحياة لا تقف إلا مع من يجيد التعامل مع أسلحته أو بالأحرى مع من يملك الأسلحة.. وبالرغم من كونها بلا أسلحة لكنها عقدت العزم على البقاء مهما كلفها الثمن فاتجهت للكتابة, إذ كانت الكتابة ولازالت مسكنها الأجمل, تكتب حين تغضب, وتكتب حين تكون محبطة أكتب وحين تتعاطف وحتى حين أتحارب, مشيرة إلى كونها قد تأخرت كثيرًا في الوصول إلى القارئ كونها ليست من فئة الكتاب الذين يطبقون فكرة «الجمهور عاوز كده» للوصول إلى الجماهيرية والشهرة كما تصف.. ولكونها تكتب عن الصراعات قبل أن تكتب عن القضايا, وعن نكسة المفاهيم قبل أن تشارك في التعليقات التي يبحث عنها الناس كمتنفس من ضغوط الحياة. مؤكدة على أن هناك ما هو أثمن في الكتابة «رحلة البحث ورحلة الوجود». وقالت الروائية فضية الريّس: أظن أن هذا المخلوق «رحيل حصة» يسكنني منذ لحظة وعيي لذاتي ومفارقات الحياة, لكنه لم يطاردني حين كنت ساكنة, حين كنت أعيش بين أبي وأمي آمنة مستقرة بلا خوف وبلا صراع. لم يلح لي ولم يقذف حممه ليجتثني ويطاردني حد الانفصال عن الواقع المعاش. في رحيل حصة كنت قد دلفت الصراع الذاتي والحياتي مع الذات ومع الآخر. الصراع الذي لا تستطيع أن تفهم ما هو أو ما يعنيه عدا أن تعي أن هناك عبثا ما يحيط بك وأن ثمة لا منطق, وأن الجميع واحد شامل وعام, يحمل رايات المبادئ لكنه يتخلى عنها عند أول بارقة لمصلحة أو هدف مطلوب. طاردتني حصة حملت قلمي لأكتب بعد سقوط بغداد عام 2003م, ذاك المشهد المرعب بين حامل حذاء يضرب صورة صدام وآخر ناع له. وقفت أمام السؤال المذهل من نحن, ماذا نريد, أين الصدق والكذب والمبادئ وما هي المبادئ أصلاً؟.. صارعت ولادة «رحيل حصة « مدة خمسة سنوات كاملة, كانت فيها الشخوص تطاردني بهلع. حصة وخوف نوف وحرية فرح حتى بسجنه حيث الشعور الدائم بالدفاع عن القضايا الذي يجعل شعوره بالحرية مضاعفا لأن حريته كانت من الداخل بلا حدود. (عباءة سوداء) خيبة أن تغرس من يقتلعك! الرواية الأولى كانت التحدي الأكبر الذي أمنت فيه حين قرأت «لنجيب محفوظ» مقولة أن الموهبة لا تتعدى 1 % وأن الجهد يمثل ما نسبته 99 % ما جعلني مصرة على أن أحمل القلب لأنجز مشروع رواية, مهما كانت المعوقات والنتائج .. أما (عباءة سوداء), فكانت وليدة خيبة أخرى, عشتها حين واجهت حقيقة أكبر من معاناة وجود الخونة في حياتنا, معاناة أن «تغرس من يقلعك» حين تجتهد لصنع نجاح شخص ما النجاح غير المسبوق, ثم يفاجئك بأنه استحال بنفسه إلى معول يقصم ظهرك! حينها لا يمكن أن تستلم لطاقة الغضب ولا لجحيمها, كان لابد من التسكين مرة أخرى وكانت رواية «عباءة سوداء» بمثابة ابنتي الثانية التي كانت ولادتها أسهل بكثير من ولادة الابنة الأولى, إذ لم يستغرق العمل فيها أكثر من أربعة شهر أثناء دراستي للدكتوراه في بريطانيا, مقابل خمس سنوات للأولى. تربيتي محافظة لكني أعاني من القيود وحول علاقة رواياتها بمشرط النُّقاد ومنصات التتويج بينت: أن فعل الكتابة فعل وجود, وليس فعل استعراض: لذلك لا التفت إلى ما يراه النقاد أو ما يعتقدونه. كما أنّي لم أبحث يوما عن قوالب معينه أعمل عليها لأرضي الجمهور أو النقاد. فعل الكتابة إلحاح ذاتي لا يمكن تأطيره بفكرة الاحتفاء بالإبداع أو التتويج. أرى بهذا الفعل مراهقة فكريه ينبغي ألا ينجرف لها أو يقع في دوامتها المبدع, لأنها ستجعل إبداعه مشروطاً, وتلك ستكون مقبرة المبدع حتماً. بالنسبة لي لم أتلفت يوما لقضية التتويج لكني كنت ولازلت بحكم تربيتي المحافظة أعاني القيود الذاتية. القيود التي اصطدم بها حين أكتب قيم أبي وأمي ومعايير تقييمهم. تلك القصة أعاقتني كثيرًا كما أظن أو أعاقت بعض الرؤى التي أريد طرحها, لكنها تصطدم بجدار القيود التي تشربتها من أبي وأمي معاً, أما عدا ذلك فلم التفت يوماً لأي تقييم يُذكر من أيا كان. لكن من ناحية نظرية بحته أرى أنه ينبغي على المبدع أن يعمل بمعزل عن الاحتفاءات وبمعزل عن آراء النقاد والتقييم, على المبدع أن يكون حرًا حتى من قيوده الذاتية التي يفشل بها البعض كما هو الحال معي للأسف. ورفضت «الريّس» أن تصدر أي حكم على تجارب الآخرين, معللة أن ما تتحدث حوله في هذا الجانب من أعمال لا يتعدى كونه «انطباعات ذاتيه», لا ترقى لمستوى التقييم أو إصدار الأحكام النقدية, وقالت: الساحة الأدبية مليئة بالأسماء أثبتت قدراتها الإبداعية على رأسهم محمد حسن علوان وعبده خال وغيرهم الكثيرين. إخوتي مثقفون وهذا ما حدث في مكتبة «مدبولي» غير أن تعاطي المبدعين والمبدعات السعوديين مع الرواية يأتي نتاج ردة فعل حينا, ومرات يأتي على هيئة تحدٍّ لإثبات أننا قادرون على كتابتها, إضافة كونه شكل ترف ثقافي بحت. أعتقد أن الرواية ليست جزءًا أصيلاً في ذائقة المجتمع كون العملية الثقافية حديثه بعض الشيء ليست ضاربة في القدم مقارنة بالمجتمعات العربية الأخرى مثل مصر على سبيل المثال, لكن وخلال الخمسين سنة الأخيرة أرى أن الساحة الأدبية السعودية في حال تقدم وثراء, وأظنها ستطرح الأفضل في المستقبل إذا استطعنا تجاوز مأزق قنوات التواصل الاجتماعي بسلام. تجربتي الشخصية في الرواية لا استطيع الحكم عليها, لأني أراها محاولات لكنها ظهرت بعد عبور مراحل القناعة التامة بضرورة العمل وبضرورة الكتابة, لا انتظر شيئا لذا اشعر بالسلم كليا مع ذاتي لأني أضع آمالي في الآتي وليس في الماضي. أحلم بأعمال أخرى أستطيع فيها الخروج من شرنقة الخوف فاكتب بتجرد دون مسح ودون إعادة أكتب ما لدي بصيغة أفضل وبنضج أكبر. هذا ما آمل وأسعى لأحققه. قد يكون ذلك بحكم نشأتي في أسرة مثقفة إذ إن إخوتي مثقفون جدًا الأمر الذي جعل أسماء الكاتبات والكتاب وخاصة المبدعون منهم متداولة ومعروفة بيننا وكأنهم جزء لا يتجزأ منا. بصراحة أكبر كذلك قد يكون الأمر متعلق كذلك بالمراحل التي عشتها معتمدة كلياً على الثقافة الشفهية بدأً من فترة طفولتي ومراهقتي إضافة إلى الفترة الجامعية. كنت استمع طوال الوقت منهم إذ كان انشغالي منصبًا على المذاكرة والتفوق الدراسي, لكن أحيانًا تلعب الأقدار في حياتنا دورًا لا نستطيع أبداً ادعاء الفضل فيه ولا ادعاء الوعي، بل هي مصادفات تبعث فينا شيئاً لم نتوقعه وتدفعنا إلى طريق لم نفكر فيه مطلقا. وهذا ما حدث في عام 97 أقمت في القاهرة مع أخي الذي كان يدرس الدبلوم العالي للفنون المسرحية لمدة ستة أشهر وأنا كنت أعمل على إنجاز رسالة الماجستير وقتها.. وبعد أسبوعين من وصولي للقاهرة اصطحبني أخي إلى «مكتبة مدبولي», واشترينا الكثير من الروايات والكتب الفكرية, فقضيت وقتي هناك أقرأ كل يوم بنهم لافت وبحالة الجوع التاريخي للمعرفة والفضول الذي كان يقودني لاكتشاف عوالم لم أكن حتى أن أصدق أنها تحمل هذا الكم من المتعة المعرفية.. والفتنة التي سكنتني شهورًا هناك ثم حملتها معي عند عودتي للرياض لأبقى عدة سنوات أقرأ قراءة جادة لأول مرة. تعرّفت على غادة السمان والطيب صالح وتتابع: حقيقية ليست بهدف الاستعراض أمام الآخرين وليست بهدف اقتناص إعجاب الآخر, بل رغبة حقيقية جامحة سكنتني طويلاً وتجاهلت إلحاحها.. بعد ذلك بسنين حين بدأت مشروع الدكتوراه في القاهرة تعرفت على ملكة اللغة المبدعة الأولى في الوطن العربي «غادة السمان» فكان أول ما قرأت لها «رحيل المرافئ القديمة» الذي قرأتها مرتين على فترات متباعدة و»بيروت 75» الذي قرأته أيضاً ثلاثة مرات فترات مختلفة. في تلك الفترة أصبت بهوس اسمه «جماليات لغة غادة السمان» اللغة التي لا تمل تلك الطيعة البليغة السهلة والراقية والمحملة بكل أدبيات الجمال, وبقيت أبحث عن كتبها ولا أمل, قرأت أغلب أعمالها ولو أتيحت لي فرصة التفرغ قليلاً لأعدت قراءة بعض من أعمالها من جديد. كما قرأت «لنجيب محفوظ», بساطة سرده وكثافة أعماله تستحق التوقف والإعجاب. وقرأت أيضًا «لجابريل ماركيز», الذي أصابني بعقدة الخوف من الكتابة بوصفه الدقيق وبفهمه البالغ لمكنونات النفس البشرية, فأحببته بقصصه القصيرة أكثر من رواياته التي قرأت منها فقط (مئة عام من العزلة) و(الحب في زمن الكوليرا). أبهرتني وقتها أيضاً الأكاديمية الدكتورة «رضوى عاشور», التي مزجت بين التاريخ والخيال. الأسس التاريخية وعوالم الخيال التي صنعتها في «مريمة والرحيل» بأجزائها الثلاثة, جعلتني أتمرغ قهراً بشخوصها وعذاباتهم. وفي فترة لاحقة دخلت عالم «الطاهر بن جلون» هذا الكاتب تحديداً وبسبب قصر نفسه الكتابي وعدم غوصه الدقيق في الوصف أعطاني الأمل تحديدًا في الكتابة! حينما قرأت له قلت لم لا أكتب رواية؟! لم اقتصر على كتابة الخواطر والمقالات, وبعض فقرات (التنفيس), التي كنت أمارسها قبل الغرق في عالم القراءة الذي تعرفت عليه في مدينة «لسكون» رغم صخبها الظاهر القاهرة. تعرفت كذلك على محمد شكري الذي قرأت له بعد «الخبز الحافي», عملين قصيرين فقررت ألا أقرأ له بعدها, لأني رأيت تجربته الإبداعية قد وصلت مداها في «الخبز الحافي», وظننت أني لا أستطيع أن أقرأ له شيئاً بمستواها. وتعرفت على «الطيب صالح», وعشت معه ذات التجربة في قراءة الأعمال التي عشتها مع «محمد شكري», فبعد قراءة (موسم الهجرة إلى الشمال), قرأت له عدة قصص قصيرة وقررت ألا اقرأ له بعدها.. خلصت لذات النتيجة التي توصلت إليها مع شكري. من المؤكد أني كنت أحبس أنفاسي وأنا أقرأ بعضًا من روائع «همنجوي وتلستوي», وإن كنت عشقت «فرجيينا ولف», حد التماهي مع معاناتها الإنسانية وصراعاتها الدائمة. أحببت كثيرًا «فاطمة المرنيسي», وأبهرتني أحلام الصانع في (بنات الرياض), «لأحلام الصانع», و(صوفيا), محمد حسن علوان. القراءة عالم الجمال الوحيد الذي تستطيع أن تعيشه بكامل وجدانك دون خوف ولا قلق ولا معاناة, تدخل مغارتك المختارة طائعاً مختارًا بمحض إرادتك تعيش متاهاتها حينًا وجمالها أحايين, يستوقفك هذا السرد الذي يشبه حكايات الأساطير. تقف حائرا أمام هذه النفس البشرية التي تراها من لحم ودم تتجسد في مخيلتك, تتلمسها تتعاطف مع بعضها وتغضب من البعض الآخر وتضيق ذرعا بآخرين لكنك في كل حالاتك تظل مبهوراً بمن لديه القدرة على صياغة هؤلاء الأبطال بهذا القدر من الفن والإبداع. وطالبت الروائية «فضية الريّس» أن نقبل تجارب جميع المحاولين من الكُتّاب المبتدئين حتى وإن كانت خديجة مشوهة تاركة الحكم للزمان بفصل الغث من السمين وقالت: بالنسبة لي أنا كثيرة التسامح مع المحاولين مهما كان ضعف محصلتهم ومهما كانت بساطة إنتاجهم, يُحسب لهم المحاولة, في هذه الحياة نحن بحاجة لمن يملك جرأة الكتابة لأنها فعل معقد, تحيطه إشكالات لا تصدق. أعتقد أن حتى هؤلاء الذين هم بعجلة من أمرهم لإصدار الإنتاج الإبداعي قد عانوا الأمرين قبل أن خطو هذه الخطوة المخيفة, إن يضعوا نتاجهم الخاص لمقصلة الآخر. وإن كنت أعيب عليهم التعجل في البحث عن الشهرة! فيكتبون دون أن يقرؤوا جيدًا, ودون أن يقطعوا المسافة الضرورية التي تؤهلهم لخوض فعل الكتابة جيدا, ودون أن يتشكل لديهم التكوين الفكري أو اللغوي الذي هم بحاجة إليه. ذات مرة قرأت منتجا لفتاة من (الشمال), وشعرت بشيء من الألم لذاك المنتج؟! ورأيت فيها شيئاً من إمكانيات تحتاج إلى مزيد من العمل ومزيد من القراءة ومزيد من الصقل. لكني أعود وأقول: ليكتبوا وليطرحوا الأجِنّة حتى وإن كانت خديجة أو مشوهة. كلما سَلمْنَا بفكرة ضرورة الكتابة سنصل لنتيجة حتمية أننا سنحصل في النهاية على كاتبات وكتاب حقيقيون. سيهمل الغث وسيبقى الجميل, التاريخ هو الميزان الحقيقي كل الأعمال التي ستنشر, والعمل الأصيل يأخذ حقه يوماً, والضعيف سيدفن تاريخيًا ولكننا على المدى الطويل سنكسب معركة القلم والكتاب مقابل (الفاشنيستات), ومجانين التواصل الاجتماعي. وزادت: بتصوري أن الكتابة الإبداعية لا يمكن أن تخلق من العدم. أعتقد أن الكتاب يعتمدون في خلق شخوصهم على شيئا من الأساس الواقعي, ما يختلف فيه المبدعين هو المسافة الفاصلة بين الأساس الواقع وبناء الخيال. بين تلك التوليفة التي يدمج به الكاتب بين ما يلامسه سماعا ومشاهدة وتجربة وبين الرؤى التي يصنعها بنفسه فيخلق هذا التمازج وهذا التناغم بين خياله ومربعات الواقع التي ستند عليها. الاختلاف يكمن في البراعة اللغوية وفنيات السرد. هناك من يصنع من توليفته الخاصة قطعة فنيه لا تضاهي وهناك من يجعلها محملة ببعض الترقيع. هناك من يواري ثقوب الخلل الكتابي بشيء من الذكاء, وهناك من لا تطاوعه لغته ولا يسعفه خياله ليواري تلك السوءات. في روايتي عباءة سوداء مثلاً صنعت شخوصها التي تراكمت داخلي منذ زمن طويل لكنها لم تختمر ولم تظهر إلا حين كنت أدرس الدكتوراه في لندن. حين انتهيت منها اكتشفت أن بعضًا من صراعات شخوصها هي أشياء سمعتها أثناء الجلسات التي نقضيها صيفًا مع إخوتي بالجوف. حيث نمضي الصيف سهرًا بأحاديث كنت أسمعها عن المجتمع الذكوري فتصبني بالدهشة والفضول! لأن أسمع أكثر, حد أنني كنت لصيقة بإخواني أكثر من أخواتي, لأني وجدت في جلساتهم الشيء الذي لا يمكن أن أسمعه إطلاقًا من عنصر نسائي في مجتمع مغلق وفي أسرة محافظة حد التطرف. أعود مرة أخرى لأقول أصالة الموهبة تصنع فرقًا في شكل المنتج وليس في أساسه فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجد كاتبًا يجرؤ أن يدعي أن أعماله من وحي خياله فقط. وتتطلع الكاتبة الروائية الدكتورة «فضية الريس» أن تكون هناك نهضة ثقافية وإبداعية على مستوى البلد بشكل عام, ومنطقة الجوف بشكل خاص. وأن ترى كُتابًا وكاتبات من الجوف تتجسد إبداعاتهم بمشروعات ثقافية إبداعية تضاف إلى المكتبة العربية. وأن يُكسِروا «قيود الخوف», من حكم الآخر وانتقاداته. وأن يفاجئونا -كما تصف- بمشروعاتهم التي ننتظرها جميعاً.