تعود الروائية باتريسيا سارافيان وورد التي أبصرت النور في بيروت عام 1969، بذاكرتها الى الوراء: "ترعرعت في الحرب متمنية أحياناً لو أنني بالغة لأنني كنت أشعر بوجود طريقة أخرى للنظر الى الأمور، طويقة فرتّها. كنت أصاب بالإحباط لأنني لم أفقه شيئاً من السياسة، وهوية المقاتلين والوزراء وما الذي كان يجري فعلاً". تفرج وورد عن ابتسامة رقيقة مضيفة: "ولكن بالطبع، عندما تكبر تتنبّه الى أن كل ذلك لا يعني شيئاً، لا يمكنك بتاتاً أن تعرف شيئاً. والمغزى الأساس من الموضوع هو أنك تشعر بالعجز الكامل". في روايتها "مجموعة الرصاص" الصادرة عن دار نشر "غريوولف بريس أوف سان بول" في ولاية مينيسوتا، تتقصّى وورد الشعور بالعجز والبحث الذي تغوص فيه فتاة تنشد المعنى والحقيقة بينما تترعرع في غمرة العنف، في لبنان. وعلى رغم أن روايتها هي البكر، فإنها تتسم بنضج واضح مشكّلة عملاً متكاملاً. أربعة آراء مدوّنة على غلاف الرواية الخارجي تشيد بها، أحدها من الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ والآخر من الكاتبة الأردنية الأصل، الأميركية الجنسية ديانا أبو جابر. وواقع الحال أن الشهادات أتت في محلها نظراً الى الاستقبال الحار الذي لقيته الرواية في الوسائل الإعلامية الأميركية. "مجموعة الرصاص" رواية معقدة لا تتنقل بين الماضي والحاضر فحسب بل في الأمكنة أيضاً بدءاً من بيروت، الى جبل لبنانفالولاياتالمتحدة وحتى بعض المعالم من إيطاليا واليونان. هي رواية عن ماريان الحساسة التي تتمتع بذكاء حاد وخيال خصب وأختها ألين التي تبلغ الثانية من عمرها. على مرّ السنين، تقع ألين وتليها ماريان ضحية الاكتئاب والأذى الذاتي بما فيه قطع الشرايين. وليس هذا التدمير الذاتي إلا نوعاً من الاندماج في العنف الذي يحوطهما. انهيار نفسي يعتبر رد فعل سليم في عالم يرتابه الجنون. تستقي الرواية عنوانها من مجموعة الرصاصات والشظايا وسواها من معدات الحرب التي جمعتها ألين، الفتاة التي تزعم يوماً أنها عثرت على جثة جندي سوري ودفنته في الجبل، جثة لم تفارق ذكراها ذهن ماريان. والد الفتاتين بروفسور أميركي يدرّس في بيروت بينما أمهما لبنانية - أرمنية من أم مصرية. شكّل اختلاط الهويات هذا نوعاً من اللبس في نفسية ماريان التي تتمتع بهيئة اميركية شقراء الشعر وزرقاء العينين في حين تتميز ألين بشعرها الأسود، وعينيها الداكنتين و"بشرة أرمنية بيضاء تماماً كأمي، هيئة أشعرتني بأنني غريبة". في بداية الحرب، كان العمال الذين يزيلون الأنقاض التي خلّفها انفجار قنبلة، يشيدون ب"ماريان" الصغيرة، انها ملاك بشعر أشقر وعينين زرقاوين. وكانت تجيبهم فخورة بأن أباها أميركي. لكن سبحة الزمن التي كرّت، جعلت ماريان تخجل من جذورها الأميركية، بخاصة عند تدخل الأميركيين في لبنان في الثمانينات. حاول والد ماريان الأميركي أن يبقى في لبنان أطول مدة ممكنة، على رغم عمليات الاختطاف والقتل التي شملت الغربيين، بمن فيهم زميله الذي كانت تعرفه الفتاة على أنه "العم بيرني". ولكن في نهاية المطاف، أصبحت الحياة في لبنان خطرة ما دفعه وعائلته للسفر الى الولاياتالمتحدة. في مقدمة الرواية، تتذكر ماريان "لبنان الحقيقي"، حين كانت تتسلّق التلال برفقة ابنة الجيران، تستقل سيارة الأجرة للتطواف في اصقاعه، للتجول في بعلبك، تتذكر الشتاء في بيروت والصيف في حضن الجبل. الآن نرى ماريان البالغة ثماني عشرة سنة، تقودنا الى واقعها الجديد، الى عائلتها التي انسلخت عن بيروت وتحاول الاستقرار في بيت في أميركا. كانت العائلة تعتبر ماريان الابنة "العاقلة" وتطلب منها الاعتناء ب"ألين" لكن ذلك كان في بيروت. أما في الولاياتالمتحدة، فاندمجت "ألين في حياتها الجديدة بعزم، وحرقت كل ما يربطها بالأيام الغابرة في لبنان، فجددت البيت وأعادت هندسته وزرعت الحديقة وروداً. ماريان، في المقابل، غرقت في اكتئاب عميق حتى كادت تقضي في جرعة زائدة. لا تفارق صور الحرب ذهن ماريان، ولا تنفك تدور وتدور الى درجة أنها دفعتها الى الإلحاح على أمها في السؤال عبثاً عما حصل فعلاً خلال الحرب. في غمرة اكتئابها، ما انفكت الصور تراود ذهنها. تصف وورد في طريقة هائلة العلاقة التي تجمع الشقيقتين، وعلاقتهما بأهلهما المحبّين ولكن الذين لا يعرفون كيفية التعامل مع طفلتيهما المشوشتي الذهن. في أميركا، راحت العائلة تناضل لبناء حياة جديدة حيث عثر الوالد على عمل في مخزن والام في مكتبة وكانت تجمع قسائم الربح التي تساعدها في ادخار مالها. تمنح وورد للشخصيات الأخرى في الرواية حتى الثانوية منها، عمقاً وتاريخاً وطبعاً تميزها. خصوصيات تطاول العائلة الأرمنية، الجيران، الأولاد والرجال والشخصيات التي تكنّ لها ماريان مشاعر قوية منذ سن الثانية عشرة. وجاءت قصص الشخصيات الغريبة لتغني نسيج الرواية. قرأت وورد مقتطفات من "مجموعة الرصاص" في لقاء أقيم في مسرح "ألوان الفنون" في نيويورك. وتقول ل"الحياة": "انتقيت القراءات من مشاهد عدة، أحدها كانت تجربة الحرب التي يمرّ بها طفل ومدى الانحراف الذي يتأتى عن العيش في محيط مماثل، والآخر هو الإنسان البالغ الذي يملك ذكريات لنوع آخر من العيش. كان عدد كبير من الحاضرين مرّ في تجربة مماثلة ناهيك بالجيل الشاب الذي عاد الى لبنان بعد الحرب. لذلك، أخرت المحاضرة بالمناقشات المكثفة". كان من بين الحضور مَن أعلم وورد أنّ الناس لا يريدون التحدّث عن الحرب. فأجابت وورد أنها أيضاً لا تتحدث عنها عندما تلتقي بأصدقاء أو أناس في بيروت. قالت لي صديقة ترعرعت معها في بيروت إنها شعرت بعد قراءتها الرواية أنني عبّرت بالكلام عمّا كان يخالجها من مشاعر في طفولتها خلال الحرب لكنها كانت عاجزة عن التعبير". يتميز أسلوب وورد بذاكرة دقيقة تسترجع التفاصيل والمناخ الذي كان سائداً آنذاك. قالت ابنة أصدقاء في لبنان بعد أن أعطتها أمي الكتاب أنّها: "بدأت تشعر بكل تلك الأحاسيس التي كانت تختلج في صدرها آنذاك، الإحساس بالهواء، والعشب، الجبال والحجر، شعرت بكل الأشياء التي خيل لها أنها تحوّلت سراباً وأنها لا تفقه التحدث عنها". وعلى رغم ان رواية وورد خيالية، فهي تتماثل مع حياتها كثيراً. التقى والدها البروفسور الأميركي أمها اللندنية - الأرمنية في الجامعة الأميركية في بيروت حين أتى ليعلّم في أوائل الستينات. أما جدّ أمها لأبيها فجاء من أرمينيا الى لبنان في منتصف عام 1890 وكان أحد أخوة "سارافيان" الذين اشتهروا في مضمار الأعمال في لبنان والشرق الأوسط. في العام 1987، شدّت العائلة رحالها الى الولاياتالمتحدة. تقيم وورد اليوم في "نيوجيرسي" مع زوجها المحلل المالي تامر علم الدين لكنها أبقت على علاقاتها الوثيقة مع أصدقائها وعائلتها في لبنان. وقامت زينة بركه صديقة وورد التي ترعرعت معها في بيروت، برسم غلاف الرواية الملوّن. بين العامين 1995 و1996، أمضت وورد سنة في بيروت حيث درّست في مدرسة "أميركن كوميونيتي سكول" ASC. وتزور لبنان الآن لمدة عشر سنوات: "أتوق الى بيروت - لكنني أيضاً سأحضر حاسوبي المحمول معي كي أتمكن من العمل. فالكاتب لا يعرف الإجازة أبداً". هل كانت ووود تريد أن تصبح كاتبة دوماً؟ نعم، بكل تأكيد. "لقد شرعتُ في كتابة القصص منذ أن تعلّمت حمل "الريشة"، بل عندما كنت في الرابعة" تقول. قامت وورد في أميركا بتطوير موهبتها الكتابية فحازت إجازة في الحضارات الإغريقية القديمة والكتابة الإبداعية في "ساره لورنس كولدج" في برونكسفيل، نيويورك في العام 1991. وفي 1995، أنهت شهادة الماجستير في الفنون الجميلة عن الكتابة الإبداعية الخيالية من جامعة "ميتشيغن"، "آن آربر"، ونالت منحة وجوائز عدة خلال سنوات دراستها. أهدت وورد روايتها الى ذكرى الراحل "جيروم بادانيس"، أستاذها في "ساره لورنس كولدج" الذي "أرشدني منذ سنين الى الكتابة عن الحرب والذي قرأ صفحات الرواية الأولى، صفحات تمخضتها جهودي الكبيرة" تقول. ولكن هل كانت "وورد" غير قادرة على كتابة الرواية لولا تشجيع أستاذها؟ تقول: "لم تكن المشكلة في انني كنت غير قادرة على الكتابة عن الحرب لكنني لم أكن أعرف كيفية ذلك. كانت الكتابة عنها مخيفة، صعبة، بل غاية في الصعوبة". وتضيف: "كنت أكتب عن الحرب بطريقة غير مباشرة، كتبت عن شخصيات أميركية راودها حلم غريب عنها أو كانت تعرف أفراداً عاشوا الحرب. ولكن لم أكن حقاً أكتب عن الحرب، كنت أمر بها خلال قصصي. في نهاية المطاف، قال لي "بادانيس" "الحرب هي ما تحتاجين للكتابة عنه، هي موضوعك وليست الأمور الثانوية الأخرى". غالباً ما تتمحور قصص "وورد" حول لبنان. وقد ظهرت قصصها ومقتطفات من روايتها "مجموعة الرصاص" في صحف ومجلات ومنشورات عدة منها مجلة "ليتريري ريفيو"، "مس ماغازين"، "هانغيغ لوز"، وموقع "ويب ديل سول" و"ايبوك" إضافة الى "ارارات" مجلة فصلية تعنى بالفنون والثقافة تصدر عن الاتحاد الأرمني التطوعي العام في نيويورك. واندرجت أعمالها ضمن كتاب "مرحلة ما بعد جبران: مختارات من الكتابات الأميركية العربية الجديدة" لخالد مطاوع ومنير العكش ونشرت في "جسور" في عام 1999. تلقت وورد الكثير من التكريمات وحازت جوائز جمة على اعمالها بما فيها جائزة "الكتاب العرب الأميركيين" RAWI في العام 2002. تقوم وورد الآن بإنهاء مجموعة من القصص القصيرة وستعكف على كتابة رواية جديدة. لم تفصح عن الكثير لكنها أوضحت ان الرواية تتمحور حول الحرب اللبنانية والجيل التالي في الولاياتالمتحدة. "إنها نوع من الرواية الغامضة. إحدى الشخصيات فتاة تحاول حلّ "الفوضوية المرضية" التي يعانيها والدها، فتسافر في الزمن، تعود أدراجها الى الماضي عندما كان أبوها طفلاً لتغوص في قصة شقيقته، والده، والحرب...". * كاتبة بريطانية.