تذهب الكاتبة ليلى إبراهيم الأحيدب إلى أن التنميط الجنسوي أكسب بعض المتنفذين على مراكز النشر جرأة للمساومة على النص واعتباره قابلا للمقايضة، وجعل بعض اللاتي لايمتلكن مقومات النص الناجح ينقدن للعبة ويقبلن بالمساومة ويقفزن في فضاءات النشر دون أحقية. ليلى عرجت في حديثها إلى "الوطن" على حقبة الثمانينات الميلادية قائلة إن أجواءها جعلت الكتابة نوعا من التحدي، رغم أنها أنتجت نصوصا ضلت سماء الرمز فخرجت ملغزة وفقيرة، على تعبيرها. وتطرقت الأحيدب لروايتها (عيون الثعالب) مؤكدة أنها نجت فيها من الذاتية وقدمت رؤية الفرد.. إلى مضامين الحديث: ظهر اسمكِ كقاصة، في الثمانينات الميلادية إبان ذروة صخب الحداثة، حدثينا عن أوقع وأهم ما أثر في تكوينك الإبداعي من خلال تلك المرحلة؟ أظن أن أكثر ما أثر في هو الشعور بأننا نكتب شيئا مختلفا، وهذا المختلف يحارب وبضراوة من أطراف أخرى، لغة تحدي السائد آنذاك كانت محفزا لكتابة نصوص مختلفة، كتابات مشري عن التجريب في النصوص، نصوص جار الله المنفلتة من قيد القصة التقليدي، نصوص باخشوين المضفرة برائحة كافكا، وجود مبدعين عرب يشاركوننا الكتابة والنقد، تمازج التشكيل بالنص، وتقارب النص مع اللوحة، هذه الأجواء المشبوبة بحمى الإبداع والتوق للتجريب وتكسير الأطر، كانت وقودا جيدا أنضج ذاتي الكاتبة. كانت الكتابة وقتها تطمح لسقف أعلى، والجميل آنذاك أن كفتي الصراع كانتا على مستوى واحد، صحيح أن كفة التيار التقليدي كان يرجحها تعاضد المجتمع بكافة منابره معها، لكن على مستوى الفعل الثقافي كانت الملاحق الثقافية تحتفظ بحقها في نشر النصوص التجريبية والمختلفة لمبدعين عرب ومحليين، ملحق اليوم وملحق اليمامة وملحق الرياض والجزيرة، والندوة كانت على الطرف النقيض تعمل على تحجيم هذه السياقات وتقديم النصوص التقليدية ونقد التجربة الحداثية بكل ما تستطيع من أدوات، هذه الأجواء، وإن رأى البعض أنها تحد من فضاء الحرية، إلا أنها جعلت الكتابة نوعا من التحدي، كان فضاء الرمز وجنة المجاز يتنامى ويبتكر أدواته وأسطوراته من الثقافات كافة، هذا النزوع للمجاز والرمز أنضج النصوص، جعل اللغة مادة تتشكل بكثير من العمق، صحيح أن هناك نصوصا ضلت سماء الرمز فخرجت ملغزة وفقيرة، لكنها في الغالب كانت تدل على فقر موهبة الكاتب وفضح أدواته، وأنا هنا أتحدث عن المبدعين الذين خرجوا من تلك الحقبة ناضجين، بعضهم مرت به فترة الثمانينات كزمن وليس كحقبة مؤثرة، أسماء كثيرة كانت موجودة آنذاك –ولاتزال موجودة - لكنها لم تنجز نصا لافتا ولم تترك أثرا. أصدرتِ حينها مجموعتك القصصية اللافتة ( البحث عن يوم سابع)، إلى أين وصلت علاقتك بالقصة اليوم؟ أصبحت علاقتي بالكلمة أنضج وأجمل، فضاءات النصوص إن لم تتطور فستظل راكدة، وأظنني طورت علاقتي بالنص القصير جدا، وبالنصوص المفتوحة، ووجدت فيها ما أريد. انشغل العديد من الروايات التي كتبتها المرأة السعودية بالتشكي والضجر والتباكي على واقع المرأة، غير أنك في (عيون الثعالب) ملتِ إلى مساءلة الصراع بين العالم الأنثوي والذكوري من خلال واقع (نخبوي / ثقافي) .. إلى أي حد كان الصراع بين العالمين حاضرا في ذهنك وأنت تكتبين العمل؟ تشغلني مسألة تنميط النظرة للنص الأنثوي، اعتباره أقل مرتبة من النص الذكوري الذي يشتغل في فضاءات مختلفة، هذا التنميط جعل البعض يتعامل مع هذا النص بطريقة تقلل من شأنه وتعتبره اكسسوارا ثقافيا لأنثى تتشكى من رجل، كنت أسمعهم في الأمسيات يعتلون المنبر ويتحدثون عن دوران الكاتبة في فلك الرجل! وكأن هذا الدوران نغمة مكرورة ملوا سماعها من زوجاتهم وحبيباتهم، والمحبط أنه حتى بعض المشتغلات على نقد النصوص تأتي متلبسة رداء الناقد الذكر مكررة مقولاته عن هذا النص! وكأنها بذلك تشرعن دخولها لمنطقة النقد، فها أنذا أتفق معكم حول نص الأنثى، بل إني أجلده بذات الأداة، تماما كما يحدث في اللاتي يشتغلن على النص الفقهي، يقدمن رؤى تتفق مع الفقه الذكوري للنصوص، هل هذه ولاية مقنعة للرجل! أم محاولة لكسب القبول.. لست أدري! هذا التنميط أكسب بعض المتنفذين على مراكز النشر جرأة على المساومة على هذا النص واعتباره قابلا للمقايضة، وهذا التنميط أيضا جعل بعض اللاتي لايمتلكن مقومات النص الناجح ينقدن للعبة ويقبلن بهذه المساومة ويقفزن في فضاءات النشر دون أحقية، أسماء نسائية كثيرة استغلت تجنيس نصها لتصل عبر طرق ملتوية، وإلا كيف تفسر هذه الفقاعات التي تتضخم على خواء وتخرج فجأة للعلن لتمثل الإبداع في محافلنا الثقافية، هذه الأسماء تستغل هذه العلاقة الملتبسة بين نص الأنثى وجسدها، وهذا الصراع حول نص الأنثى لا يزال مستمرا وسيظل ما دمنا نجنس النصوص ونعطيها القيمة وفقا لجنس كاتبها، أحيانا بتضخيم النص وأخرى بتهميشه. إبداع النص ليس له علاقة بموضوعه ولا جنس كاتبه، بل بكيف تكتبه وتقدمه وتخرجه من سياقات الاعتياد، هذا ما كان يدور في ذهني وأنا أكتب روايتي. بين المخيلة والواقع مسافة يبصرها المبدع، ويلتقط منها بحذق مادة لنتاجه، كيف واءمتِ بين ما هو واقعي وتخيلي في ( عيون الثعالب)؟ الخيال وشم يحتاج إلى جسد، هذا الوشم ليس خدعة بصرية، لكنه أيضا ليس جزءا حقيقيا مئة بالمئة! يمكننا أن نقول ذات الشيء عن الواقعي والتخيلي في الكتابة، الخيال جزء من جماليات النص، به نستطيع أن نكسب الواقع زخما يرفعه كي يُرى، الخيال يجمله كي يُقبل من الآخرين، وفي ظني لا يمكن لأي كاتب مبدع أن يكتب دون أن يحلق بجناحين من خيال، شريطة ألا يبتعد به خياله عن غايته الأولى وهي الإشارة لواقع يراه ويلمسه ويريد أن يسلط عليه الضوء، ليس هناك ما يمنع أن يكون هذا الضوء خيالا مبدعا! لكن البعض يرى أنك بدوتِ في الرواية كمن يحاكم الوسط الثقافي بحيل الفن، ويعبر عن مواقف شخصية حيال ممارسات يرفضها؟ يقول درويش (وكلما فتشت عن نفسي وجدت الآخرين، وكلما فتشت عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبة, فهل أنا الفرد الحشود؟). الكتابة المبدعة ليست شخصية حتى لو تورطت في الذاتية، ستظل قطعة فنية يثمنها البعض ويجد فيها ما يبحث عنه، الكاتب فرد لكنه يعبر عن حشد وليس عن ذاته، وليس هناك حيل في الكتابة، إلا إذا كنا نعتقد أن معادل أليوت الموضوعي حيلة كبرى، هناك مسافة بين الشخصي والعام يستطيع الكاتب المبدع أن يقطعها بكثير من الإبداع والفن حين يعرف كيف يستفيد من مخزونه الشخصي دون أن يتورط في الذاتية المغلقة التي لا تهم أحدا سواه. في رواية عيون الثعالب أظن أنني قدمت رؤية الفرد/الحشد وأظنني نجوت من منعطف الذاتية والشخصية. في تقديرك لماذا أزعجت روايتك الوسط الثقافي أو البعض منهم؟ ربما لأن الرواية أدانت صورة المثقف، فمريم في الرواية رسمت كروكيا مطورا لمثقف لم يتطور، وضعت علامات من الحصى لدرب سلكته امرأة / مثقفة، كانت ترى في الرجل/المثقف ملاذها واكتشفت أنه مأساتها. البعض أيضا اعتبر الرواية وثيقة حية لصالح التيار المحافظ، وفي ظني أن الأعمال الفنية لا علاقة لها بموازنة الكفة، لا يمكن أن أتراجع عن كتابة نص لأنه يمكن أن يرجح كفة تيار ما، على الأقل لم أفكر بقياس المصالح وأنا أكتب، كتبت نصي دون أن أضع في حساباتي لمن ستكون الكفة الراجحة، الإبداع الذي يقيس ذاته بهذا المقياس هو إبداع فاسد بالضرورة. بعضه ملم تعنيه مسألة الإدانة ولا الانتصار للمثقف...كان يعنيه من يكون علي! حللوا وصنفوا وقاربوا وسددوا، لكنهم لم يدركوا أن عليا في الرواية حمال أوجه، يحمل أوجههم ولا وجه له. في حوار لكِ مع الروائي صلاح القرشي قلتِ إنكِ قدمتِ في الرواية حكاية شديدة التهذيب عن الحداثة، هل في ظنك أن هذا من أدوار الفن، وما هو غير المهذب الذي كان يمكن تقديمه؟ غير المهذب أن تتورط ككاتب في التفاصيل التي يمكن أن تسوق للعمل دون أن تضيف لقيمته الإبداعية، أن تتوغل في تصوير القبح دون ضرورة فنية سوى الإثارة والجذب، أن تهيمن عليك شهوة النميمة دون ضابط إبداعي، التهذيب الذي أعنيه هو الاقتصار على الضرورة الفنية في سرد الحكاية، أن أروي ما يكفي كي أنجز نصي، ولو نظرت للتهذيب في أصله اللغوي لوجدت أنه يعني التنقية من الشوائب والزوائد، بعض النصوص تترهل وتتوه لأن مبدعها لا يعرف كيف يكون مهذبا وهو يروي، فيتورط في كتابة نص مليء بالتفاصيل غير المهمة والمشاهد غير المبررة ظنا منه أن هذا سيجعل الحكاية أكثر تشويقا. هل اكتفيتِ بهذه الرواية، أم ينتظر منك القارئ أعمالا روائية أخرى؟ لم أكتف بعد من الكتابة، الكتابة شريك أزلي تحمل عني هذا الطريق الطويل المسمى حياة، أما النشر فتلك مسألة يدخل فيها الشخصي والعام الذي تحدثنا عنه مسبقا، لذلك ليس لدي فكرة واضحة عن ما يمكن أن ينتظر مني القارئ، لكني أكتب وأكتب وأكتب. في فترة من الفترات، كرست قلمك لزاوية صحفية (تحولات امرأة نهرية)، ما الذي أتاحته لك الزاوية بعيدا عن النتاج الإبداعي؟ أتاحت لي القرب من نبض الناس، وتبني همومهم الصغيرة، وأضاعت علي فرصة الاشتغال على ذاتي المبدعة، التوغل في الكتابة الصحفية يأتي أحيانا على حساب كتابة النص الإبداعي، ويشغلك عن تطوير أدواتك الإبداعية، وهذا ليس على وجه العموم، أنا هنا أتحدث عن تجربتي. خضتِ تجربة العمل الإداري من خلال نادي الرياض، هل حققتِ طموحاتك ورؤاكِ في هذه التجربة؟ لم أخض عملا إداريا في النادي وهو الذي تعنيه في سؤالك، ليس تنازلا ولا قصورا مني، لكني فضلت العمل في اللجان وهو أمر يتيح لي هامشا من الحرية دون الالتزام بدوام مسائي، لكني سأتحدث هنا عن تجربة العمل في النادي بعيدا عن الإداري أو غير الإداري، فكلنا ندور في فلك واحد، دعني أتحدث عن طموح الإنسان المثقف بدون تجنيس، لا أظن أن هذه التجربة قدمت بشكل يرضي المثقفين والمثقفات، فيما يخص اللوائح والأنظمة ومدى استقلالية الأندية أو تبعيتها للوزارة، أما ما يخص نادي الرياض فلم أواجه عقبات كبيرة إلا ما قد يواجه أي شخص حين ينضم لمجموعة مختلفة المشارب والآراء، قد لا ترى الإبداع بنفس عينك. أما تحقيق المطامح والرؤى فيحتاج لصراع طويل الأمد مع الأنظمة والعقول، وهو صراع مشروع لكنه لا يفسد للود قضية، وأتمنى أن تكون الصورة أفضل في الأعوام القادمة.