يلحظ الناظر في عتابات الكتب، والمقالات، والمستمع لأحاديث الناس: أننا شغوفون بأن نبقى أسرى: فكرة، أو نوع، أو حتى قول؛ ولطالما تساءلت عن أصل هذا التفكير الثنائي الاستعلائي؛ ولعله يعود إلى آثار التفكير الفلسفي القديم؛ فالطبيعة عند الفلاسفة جزآن صورة، ومادة. علة ومعلول. سكون، وحركة. مكان، وزمان. بدن، ونفس... وغير ذلك مما هو متأصل في النظرة اليونانية للطبيعة، ثم تطورت لتصبح مضمون التوحيد؛ إذ وجد فيها معبراً عن مضمونه: التمييز بين الإله والعالم. وهكذا تشبعت أذهاننا المعاصرة بالثنائيات: نفس، وبدن. ودنيا، وآخرة. ذكر، وأنثى. مؤمن وكافر. ولفظ، ومعنى. وأعلينا طرفاً على حساب الآخر؛ وأصبحنا بين تابع ومتبوع، وأصبحنا أسرى نعيش الفراغ من الداخل ونتظاهر بالامتلاء. وكان من الطبيعي أن يتعدى هذا التفكير إلى سلوكنا؛ فتجدنا نحتقر الطبيعة؛ فنرمي عليها فضلاتنا، مع أننا نتلو {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} - سورة الإسراء آية 70- ؛ وأصبحت نظرتنا للطبيعة قائمة على أساس التفاضل لا التكامل؛ فأفقدْنا احترامَها؛ وهذا الانتقاص أُسقِط على ألفاظِنا؛ وخير دليل هي الشتائم التي تستنكفها الذات السليمة؛ والتي أصبحت حديث الشارع العام. وعلى هذا فنحن أمام خطر محض أثمره هذا التفكير الثنائي؛ وهو أننا أصبحنا أسرى لإنسانٍ فَكَّر، وكتب، واجتهد بحسب استطاعته، وبحسب ما يتطلبه العصر، ثم مات، ومن جهة أخرى فنحن أسرى لنصوص الموتى؛ أما آن للقيد أن يُكسر؟ وهاك مثالاً على سذاجة التلقي عندنا: يقول العامري المتوفى في أواخر القرن الرابع الهجري في كتابه السعادة والإسعاد عن النساء: «ونريد أن نُبين أن طبعهن في العلوم والصنائع لا ينقص عن طبع الرجال ولكنه يكون أضعف»؛ ولهذا وصفه المُحقِق بأنه مُنصِف، ولم ينتَبِه إلى ما أورده المؤلف ذاته بعد تلك الفقرة بأسطر تحت عنوان فيما يجب أن يُمنعوا منه: «قال ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعلِّموا النساء الكتابة»! ولم يكلِّف نفسه البحث عن تخريج لهذا الحديث أو حتى أن يُعلِّق عليه في الهامش! فضلاً عن ذلك: كيف تتعلّم العلوم إذا مُنِعت من الكتابة؟ وأنا هنا لا أدعو إلى قطع التراث، بل إلى إعادة الحياة إلى ذواتِنا، وعقولنا، وإلى المكتبات وإلى العالم؛ إذ ليست وظيفة المعرفة مقتصرةً على عصر، ولا على دين بعينه؛ إن الخطاب المعرفي الإسلامي عليه أن يتجاوز قيدين: الأسر للماضي، والخروج من: المسلم إلى الإنسان؛ ليقترب من الحضارة.