معلولا... قرية جبلية مميزة، تبعد عن دمشق نحو خمسين كيلو متراً باتجاه الشمال، بيوتها المنحوتة في الصخر، بشكل يثير الخوف - أحياناً - والدهشة أحياناً أخرى، ترتفع صاعدة نحو الجبل الذي يحتضنها بحنان ومودة. ليس غريباً أن تدخل أحد هذه البيوت لتسند ظهرك الى الجدران الصخرية في غرفها، أو لتتنشق عبق البخور والشموع المحترقة في كنائسها وأديرتها المتعددة، أو لتسير بين الوجوه الريفية السمحة، وتقف باستغراب لتسأل أحد كبار السن شيئاً بالعربية ويجيبك أحياناً بلغة لا تفهمها" إنها الآرامية القديمة التي ما زال أهل البلدة يتكلمونها الى اليوم، حيث لم تدخل العربية الى معلولا إلا في أواخر القرن التاسع عشر. وهذه اللغة واحدة من أقدم لغات العالم التي ما زالت متداولة على ألسنة الناس في معلولا والقرى المحيطة بها: بخعا، وجبعدين، وعين التينة. وضعت لجنة حماية التراث العالمي في منظمة الأممالمتحدة قرية معلولا على لائحة - المناطق الأثرية المحمية عالمياً - لأسباب كثيرة: ليس أقلها تاريخها العريق، وليس آخرها اللغة الآرامية - لغة السيد المسيح التي كان يتكلم بها ويعظ بني البشر مبلغاً رسالته، وهي يتناقلها أهل معلولا بالتوارث. فنادراً ما نجد الأم تكلم طفلها بالعربية، الناس هناك يعتبرون ما يملكونه - أي لغتهم - أكبر كنز يستطيعون إيراثه للأجيال اللاحقة. والأجيال الجديدة تعتبر قدرتها على النطق بهذه اللغة تميزاً جديراً بالاهتمام، دفعها لتعلم الآرامية - ولغات قديمة موازية - في عددٍ كبير من جامعات العالم - خاصة جامعة "هامبورغ الألمانية" والتي توفد بدورها عدداً من المتخصصين في علم اللغات الى معلولا لتعلم الآرامية من ألسنة المتحدثين بها مباشرة خاصة "الآرامية المحكية". يؤكد المستشرق الألماني وارنر آرنولد، الملقب ب"أبو ابراهيم" حين أتى الى معلولا وعاش مع أهلها أربع سنوات، أنّ الآرامية هي أصل اللغة العربية، من حيث عدد الحروف في الكلمة ولفظها. فكثير من الكلمات التي نعرفها ونلفظها بالعربية الفصحى أصلها آرامي مثلاً: دِمَشقْ، تلفظ بالآرامية دِمَسْك. وأفعال مثل: صليت أو شويت هي بالآرامية صلى وشوى. وكلمة... أحد، التي تعني أول أو واحد هي ذاتها بالآرامية. وكلمات كثيرة كالعسر واليسر والقرية، الأكل، الكتب، االحلم، الكرم... وغيرها. لكن الآرامية لغة سماعية لا قواعد لها، الكلمة تكتب كما تلفظ: "كلامها هو قواعدها ولفظه هو الحركات". وتدخل لفظة "عم" على الفعل لتحديده ان كان للفرد أو للجماعة" مثلاً "عم مشتقطتلين" تعني: انهم يتقاتلون. وفي المفرد "مشتقطل" تعني يقاتل أو مقاتل. وتؤكد غلبة الآرامية وقدمها بالنسبة للغات القديمة الأخرى تلك المخطوطات التي عثر عليها في آسيا الصغرى، وتلك المكتوبة على أوراق البُردي في مصر. وتظهر الآرامية كلغة سامية وحيدة تعامل بها حكام تلك الدول في مراسلاتهم الرسمية ومعاملاتهم عبر دول شرق آسيا. تعتبر الآرامية من أجمل اللغات الحية - اليوم - وأكثرها طواعيّة لتأليف الأغاني والأشعار والأهازيج الشعبية، وهي أكثر اللغات غنى بالقصص الطريفة والحكايات الساخرة. طرقات غريبة! الإحساس الأول الذي ينتاب الداخل الى معلولا، هو الدهشة والبرودة، فحتى في أشد شهور الصيف حرارة تحافظ القرية على هوائها الجاف والبارد الذي يتحول في الشتاء الى ثلج قارس يقطع سبل الوصول اليها. البيوت المطلية باللون الأزرق، تحتضن الجبل بحنان وخوف في الوقت ذاته، وتُشعر المرء بإلفة غريبة، تدفعه للدخول في عالم القرية رويداً رويداً. في الساحة الرئيسية ل معلولا، حين تنظر الى الأعلى سترى بيوتاً طينية قديمة مبنية بطريقة لافتة للانتباه ومثيرة للتساؤل: كيف وصل البناؤون الى الجبل؟... ماذا لو سقطت إحدى الصخور؟!... ماذا لو أصاب المنطقة هزة أرضية؟ ولتخرج من خوفك وتساؤلاتك، عليك أن تسير باتجاه أحد الأدراج الكبيرة الذي يقودك نحو البيوت لتدخل في متاهة جميلة. فما تظنه طرقات في أماكن أخرى، يتحول هنا الى أسطحة البيوت، أو فناءات الدور، أو الاسطبلات القديمة. وأنت تمشي تحت "العُلِّية" المكان الأكثر شهرة في معلولا، ينتابك إحساس بالسكينة والاسترخاء. و"العُلِّية" كانت في الماضي أهم أركان المنازل الريفية ولها استخدامات عديدة كحفظ العلف أو المؤونة، وكان المجاهدون أيام الحروب يختبؤون فيها من الملاحقة. لو قُدِّر لك أن تصل الى أعلى بيت في معلولا وتجلس لتستريح في "أرض الديار" سترى كيف تضم القرية باقة بيوتها وطريقيها الرئيسيين من الإِسفلت. وستدهشك كثيراً روعة الرسوم المنحوتة على الصخور العالية حولك لتسأل من جديد: ما القدرة التي مكّنت هؤلاء الناس للصعود الى تلك الصخور الشديدة الانحدار والنحت فيها بهذه البراعة؟ ليس صعباً أن تجد جواباً" فمعلولا قرية جبلية صخرية طبعت سكانها الذين يعملون - بمعظمهم - في الزراعة، بكثير من الشجاعة والحكمة والقدرة على تحدّي الصعاب والمخاطر. وهي كذلك قرية مقدسة لأنها واحدة من أهم المراكز الدينية المسيحية في الشرق الأوسط وربما في العالم أيضاً لوجود أقدم دير فيها هو "دير القديسة تقلا - مارتقلا" الذي يعود بناؤه الى عام 80 ميلادية. وفيها أيضاً دير مار سركيس الذي كان معبداً وثنياً، ويحتفظ هذا الدير بأقدم أيقونة مرسومة في العالم للقديس "مار جرجيوس" رسمها بطرس الرسول أحد تلاميذ السيد المسيح. الكنز المدفون مهر الفتيات في معلولا غالٍ جداً... إنه منزل متواضع. ليس "فيلا" ولا طابقاً حديثاً. بل بيت ربما يكلفك سنوات طويلة من العمل الشاق والصبر لتحصل عليه وتستطيع الاقتران بمحبوبتك "المعلولية". إنه ببساطة بيت محفور في الصخر!! صحيح أن الأمر يؤخذ على محمل المزاح والتندر بين أهالي القرية اليوم. لكنه كان في الماضي الشرط الأول والأساسي الذي يستطيع من خلاله الأهل الموافقة على تزويج ابنتهم من طالب يدها. إن حفر منزل في الصخر وتقديمه مهراً للعروس لم يكن شرطاً تعجيزياً بقدر ما كان امتحاناً للشجاعة والصبر، وحجم الحب والإصرار على الفوز بالمحبوبة. ليس غريباً أن تجد كثيراً من هذه المنازل المحفورة في الجبال الصخرية المنتشرة حول معلولا حتى يومنا هذا، والتي يقال أن بعضها يمثل قبوراً لملوك الآراميين الذين تعاقبوا على الحكم حين كانت معلولا جزءاً من مملكة يبرود الآرامية العظيمة في الماضي. ومن أشهر هذه الكهوف الباقية كهف الملك "ميلوس" الذي يعتبر الأكثر اتساعاً وجمالاً من الداخل. ويؤكد خبراء التاريخ القديم أن بعضاً آخر من هذه الكهوف الصخرية - المنازل - كانت ملجأً لإنسان العصر الحجري القديم التي عثر على كثير من آثاره فيها. ثمة حكاية قديمة يتناقلها الناس في معلولا، إنها أشبه بحكايا السندباد وعلاء الدين والمصباح السحري. وتتلخص تلك الحكاية الملأى بالإثارة والممتعة الى أقصى حد - خصوصاً حين ترويها إحدى الجدات بهدوء وصوت خافت - عن كنز مؤلف من الأواني الفضية والذهبية المتنوعة والتي كان الروم قد خبأوها في مكان ما من معلولا قبل خروجهم من الأراضي السورية بعد الفتح الإسلامي لبلاد الشام. وتمضي الجدّة في سرد الحكاية لتؤكد أنّ هذا الكنز حقيقي وموقعه محدد في كتاب له نفس الإسم "الكنز". لكنها تتحسّر حين تخبرنا أن الكتاب مفقود، لم يستطع أحدٌ العثور عليه حتى الآن. وفي الحقيقة، ربما يكون الكتاب وكذلك الكنز - المتخيلان أو الحقيقيان - هما أيضاً جزء من التراث الحكائي الآرامي لهذه القرية الملأى دوماً بحكايات وأسرار. مئة ألف زائر تركز وزارة السياحة على وضع معلولا في قائمة البرامج السياحية لزائري سورية ومحبّي الاطلاع على تراثها وأماكنها السياحية، حيث يزور معلولا سنوياً أكثر من ثلاثمائة ألف سائح من مختلف بقاع الأرض وعلى اختلاف جنسياتهم وطوائفهم، وعلى مدار العام. لكنها تغص بزوارها في أيام محددة، حيث يرتفع عددهم الى مئة ألف زائر يوم الرابع عشر من أيلول في "عيد الصليب" حيث تقام المهرجانات الفلكلورية وتشتعل قمم الجبال المحيطة بمعلولا، بالنيران، تعبيراً عن الفرح والابتهاج. وتقام الاحتفالات في المنازل والساحات وعلى القمم. ويعود هذا الطقس الاحتفالي الى عام 300 ميلادية حين عثرت هيلانة على خشب الصليب مدفوناً تحت تراب مدينة أورشليم، فلم تجد وسيلة غير إشعال النار في قمم الجبال الموصلة من أورشليم الى القسطنطينية لإيصال الخبر للملك هناك. وكانت معلولا واحدة من تلك القمم التي ساعدت في إيصال الخبر. وتقام احتفالات مشابهة في الثاني والعشرين من أيلول يوم عيد مارتقلا، ويوم السابع من تشرين الثاني نوفمبر في عيد مار سركيس. وفي معلولا، لا ينسى الزائر أبداً منظر "الفج" الذي يوصل قلبها ببساتينها. وفي هذا الفج أو الشق الصخري بمعنى آخر، يرى المرء روعة ما أبدع الخالق من نتوءات وتجويفات حتى يشعر أنها لو التصقت - وهي ملتصقة في بعض الأماكن - لعاد الجبل كتلة واحدة متماسكة. تجري في أرض الفج مياه باردة وطيبة تنبع من أوله عند بستان "الحور" تغزر في الشتاء وتقل تدريجياً في الصيف. وزيارة الفج - الذي لا يوجد مماثل له في أماكن أخرى من العالم كما يؤكد كثير من السياح - تعتبر واحدة من أجمل الذكريات التي يمكن أن تحملها من هذه القرية الصغيرة الكبيرة، والتي تستطيع باستمرار أن تدهشك وأن تكتشف فيها أشياء جديدة، تستحق الاهتمام والمشاهدة. Maglula تعني معلولا بالآرامية القديمة "المعبر أو الممر" من المكان الضيق الى المكان الأكثر اتساعاً، من هذا المعنى اتخذت معلولا سماتها الجغرافية والتاريخية فهي تقع بين جبلين صخريين، يُنفذ اليها من أحدهما عبر الطريق الرئيسية الضيقة للبلدة ومن الجانب الآخر عبر فجها الصخري. ويذهب آخرون في سبب التسمية الى مناخ معلولا وهوائها العليل وسكون الحياة فيها، وقد ذُكرت بهذه المواصفات في كتاب الريف السوري ل أحمد وصفي زكريا حين كتب عنها منذ بدايات القرن قائلاً "انها أغرب القرى موضعاً، تراها بين فجوات ضيقة وصخور جعلتها جد حصينة، كل دار من دورها تلوذ بالجبل، وربما كان البيت كهفاً من الصخر بنيت له واجهة وشُيِّد له درج وكذلك طرق القرية، أسراب حرجة ومسالك ضيقة، وفي أعطاف جبالها كهوف ومغاور. وثمة مياه تترقرق جارية في المنافذ المنحدرة بين البيوت لتسقي البساتين والحواكير. وعلو معلولا نحو 1300 متراً، هواؤها وماؤها جيدان يجعلانها صالحة للاصطياف، ويحتفظ أهلها بلغة سريانية آرامية لم تنقرض حتى اليوم". ومعلولا قرية قديمة اذ ذكرها "بتولماوس الكلوذي" بإسم "Maglula" فيها آثار جمّة أبرزها مغاورها المنقورة في الصخر، بعضها متقن الصنع واسع الباحة في كوى وحفائر تشبه "النواويس" مما يدل على أنها كانت مدافن للأقدمين. ولا يخلو بعض هذه المغاور من كتابات ترجع للقرن الأول والثاني الميلادي، وفي أسفل معلولا هيكل روماني قديم يُدعى "حمام الملكة" تحوّل اليوم الى كنيسة. وفوق هذه المعالم، آثار نصب نُقش في الصخر أعلاه شبه القوس، تلوح فيه صورة رجل وامرأة ومن فوقهما نُقش اسماهما باليونانية. من الآثار الدينية المهمة في معلولا وأكثرها ارتفاعاً دير القديسين "سرجيوس وباخوس" الذي يرتفع الى 1792 متراً ويطل على القرية، تكتنفه الصخور والآثار القديمة من مدافن وكهوف وغيرها لا يوصل اليه إلا بالجهد". مما قيل في معلولا: "انها المكان الذي يتحول فيه الخيال الى واقع، والأسطورة الى حقيقة" لكثرة ما تحمل هذه القرية الفريدة من ذكريات تحمِّلها لزوارها الذين غالباً لا يكتفون بزيارة واحدة، فيعودون مراراً... إنها السحر بعينه كما يرى الكثيرون، يبقى لديها باستمرار أشياء جديدة تبوح بها للناس وللمستقبل.