يخيل اليك وأنت تتطلع الى معلولا المحفورة في قلب الجبل الاجرد بأنك امام عش من اعشاش النسور وعندما تتجول في أزقتها الضيقة تسمع كلاماً تحار في تحديد هويته وعندما تستوضح الامر تفاجأ بانه آرامي. والآرامية كما هو معروف تاريخياً إحدى اللغات السامية نسبة الى سام بن نوح التي شاعت زمن البابليين والفرس وارتقت في عهد الامبراطورية الفارسية. وقد اطلعنا الاستاذ جورح رزق الله مدرس اللغة الانكليزية في معلولا، من خلال سرده، على أهم العادات والتقاليد في القرية. وكونه متابعاً لكل ما ينشر ويقال عن قريته افادنا ببعض المعلومات التي شاع استخدامها خطأ في اكثر الاحيان، ومنها اصل كلمة معلولا فمنهم من رد سبب التسمية الى هوائها العليل ومنهم من اعتمد على المعاجم السريانية فقال معليا تفيد معنى مرتفع، سام، عال، رفيع... أو معلولي اي المضيق لضيق الطريق المؤدية الى معلولا... لكن اكثر الاسباب وروداً واصدقها تفسيراً، وهو ما اكده ايضاً لنا السيد رزق الله بأن معلولا كلمة آرامية الاصل مشتقة من الفعل اعَلْ اي دخَل وعلّخَّ اي دخلنا والمصدر الميمي من هذا الفعل هو مِعْلولا بشرط ان تلفظ الواو فيها كحرف O في الانكليزية Mihlola ومعناها المدخل أو المعبر اذ ليس للقادم اليها سوى منفذين جبلين. وتؤكد المصادر التاريخية تسمية معلولا قبل مجيء السلوقيين اليها باسم بنكرا بوليس وبعد مجيئهم في العصر الهلينستي العام 175 ق.م باسم سلوقية القلمون وكان الامير اليوناني "فيلبس" قدم اليها موفداً من قبل الملك انطيوخس الرابع، كحاكم على بعض المناطق اليهودية لارغام اهلها على العودة الى الوثنية وعبادة الهة المملكة، وبالفعل جعل لهم معبداً ضمن مغارة تعرف باسم مغارة الخوري يوسف لا تزال حتى يوما هذا، وقد ألحقت بفندق عصري بني أخيراً في القرية، وعلى احد جدران المغارة كتابة يونانية قديمة معناها أقيم هذا المعبد لعبادة الشمس من قبل الأمير فيليب اليوناني وعقيلته سنة 175 ق.م. ثم استوطن الآراميون سورية وفلسطين وكانت لهم مملكتهم وعاصمتهم دمشق أو "دمسك" "The'msek" بالآرامية، وينسب لها احد المستشرقين الالمان هذه التسمية لانها "ذات مسك" لكثرة ورودها وحدائقها. وعلى بعد 57 كيلومتراً شمال دمشق، وارتفاع 1600م عن سطح البحر، تقع قرية معلولا ضمن سلسلة جبال القلمون التي تتناثر على مجموعة من البلدات والقرى تنفرد معلولا عنها بعدة ميزات اكسبتها سمعة محلية وعربية ودولية واسعة، وجعلت الباحثين والمستشرقين يقصدونها من كل مكان في العالم للاقامة فيها. ومجالسة اهلها والاستماع الى لغتهم، ومنهم عالم اللغات Reich الذي اقام مدة فيها لدراسة لغتها والتعمق في ألفاظها وايقاعاتها. أما صاحب كتاب "الجغرافيا البشرية لسورية المتوسطية" R. Thoumin فقد وجد في معلولا موقعاً دفاعياً يمكّن عدداً قليلاً من المقاتلين من رد مئات المهاجمين، واكتشف ان موقعها الحالي ليس هو الاصلي... وربما كان في القرية التي تختفي وراء القرية الحالية وهي محفورة على شكل كهوف ومغاور يبلغ عددها خمسين كهفاً تزينها صور النسور المرسومة على جدرانها والكتابات اليونانية الواضحة للعيان. ومع ازدياد عدد السكان بدأ الاهالي ينحدرون شيئاً فشيئاً نحو السفوح واخذت البيوت تزدحم في التحامها وتشابكها بعضها مع بعض فالجدران مشتركة مع الجوار وكذلك الارضية والسقوف. وقد افقدها الالتصاق احياناً تلك اللمسة الايقاعية التي وجدناها في نواحٍ أخرى من القرية، لكن تطعيم بعض بيوت هذه القرية التي يصل عدد بيوتها الى 600 بالقناطر والاقواس قد اضفى عليها رونقاً لا تقع على مثيل له في أي قرية من قرى سلسلة جبال القلمون. وتعتمد بيوت معلولا في بنائها، على الحجر، والطين، واللبن، وخشب الحور والدردار واحياناً خشب الجوز. ومعظم البيوت مؤلف من طبقتين على الاغلب الأول اصطبل ومخزن للعلف متبن والثاني علية كبيرة تسمى القصر. والى جوارها غرفتان او اكثر اصغر حجماً لها نوافذ صغيرة للمحافظة على الدفء في الشتاء الذي يعتمد المعلوليون في مواجهة برده على وسيلة وحيدة هي الاثفية جمع "اثافي" اي الموقدة وتدعى بالآرامية ثفتا TheFtha وكانوا يستعملونها لاغراض اخرى كالطهي وتسخين الماء، وما تبقى من رمادها يستعمل لتنظيف الاواني اما السقف الخشبي فمدعم بمادة عازلة لا تسمح للماء بالنفاذ وتساعد على جرف الثلج أيام الشتاء، وفي الصيف يستفاد منه في تجفيف القمح والذرة. اما الجدران فبعد طليها بطبقة من الطين الممزوج بالتبن والماء ترصف بالحجر الكلسي الحوارة وهذه الجدران تحتوي عادة على الخزائن الداخلية لوضع اللحف والفرش، والنراجيل وأباريق القهوة المرة، وأحياناً كاسات الحجامة كاسات الهوا وتزدان بأطباق القش واكواز الذرة والسيوف القديمة. لئن حرمت طبيعة معلولا الصخرية بيوتها من فسحة سماوية كما هي الحال في معظم البيوت السورية القديمة التي اشتهرت بورودها، ورياحينها، وياسمينها، ونارنجها... فإن الأهالي تجاوزوا هذه المشكلة بزرع اصص النباتات والورود المتنوعة على شبابيك، بيوتهم وابوابها حتى باتوا يتباهون بتعدد الوانها وانواعها الورد المعلولي، الشب الظريف، قص المخمل... أما خوابي الدبس وأدنان النبيذ فإنها اللازمة التي تتكرر في كل بيت من بيوت معلولا. ويأسف السيد رزق الله كثيراً لاندثار اغلبها خصوصاً حكايا الحب والتقاء المحبين على نبع العين اثناء تعبئة الجرار. اذ كان الشبان يتوجهون الى النبع وينفخون بمنجيراتهم ويتغزلون بجميلات القرية. راحت عالعين تملِّي وشاحتلي تلاقيها بتكرج كرج الترغلي صياد وما يحظى فيها وعند منابع تلك العين التي جادت الطبيعة بها على أبناء معلولا، كان حب القمح يصوّل وقلب الشباب يطحن، اما الآن فلم يعد الشباب الصبايا بحاجة للذهاب الى النبع ويكفيهم فتح الحنفية للحصول على الماء. تعتبر معلولا من اهم المواقع الاثرية المسجلة رسمياً في سورية، وقد احتار الجغرافيون والباحثون في تفسير تشكل فجيها الشرقي والغربي وقد حيك حولهما الكثير من القصص والروايات، وعن انشطارهما تناقلت الالسن الشعبية رواية واحدة هي قصة القديسة تقلا التي اعتنقت المسيحية بعد تأثرها بمواعظ القديس بولس 67م وخوفاً من ابيها الامير الوثني هربت من قونيه في آسيا الصغرى بحثاً عن الامن والاستقرار فحطت رحالها في معلولا وعندما لحقها جند ابيها وكان الجبل حائلاً بينها وبين القرية رفعت يديها متضرعة الى الله ان يجد لها مخرجاً فكان الفج ذلك الممر الضيق بين جدارين صخريين شاهقي الارتفاع هو المنقذ. وهناك اتخذت احد الكهوف العلوية التي ترشح منها المياه كمسكن لها تتدارى فيه عن الانظار لتنعم بنعمة التأمل في الكون والكائنات،. ولشدة اعجاب اهالي معلولا بها وبصفائها وزهدها اعتبروها "قديسة" واخذوا يقصدونها راجين ان تدعو الله لشفاء مرضاهم في عصر كان فيه رجال الدين بمثابة الاطباء. وتضم معلولا العديد من الاديرة والكنائس لعل اهمها واقدمها على الاطلاق دير مار سركيس، الذي يقابل دير القديسة تقلا من جهة اليسار، ويتربع على قمة جبل يصل الى 1792م وتكشف اطلالته الجميلة انحاء القرية الجبلية وما يتبعها من بساتين واشجار مثمرة، وقد كان هذا الدير كغيره من الاديرة في المناطق السورية المختلفة، هيكلاً وثنياً ثم حوّل بعد انتشار المسيحية الى كنيسة مسيحية صغيرة، يرجع علماء الاثار المسيحية تاريخ بنائها الى ما بين عامي 313 - 325م. اما كنيسة مار الياس فبالاضافة الى جمال عمارتها وندرة ايقوناتها فقد نسبت شهرتها واهميتها للالواح الفسيفسائية الرائعة التي اكتشفت فيها تعود الى القرن الرابع الميلادي مع ان أيدي الزمان عاثت فيها فنهبت غير مرة. وفي معلولا كنائس اخرى كان معظمها معابد وثنية، وهي بمجملها هياكل معتقة، اختزنت قداسة القرون وأسرار الزمن كنيسة القديسة بربارة، كنيسة القديس جاورجيوس، كنيسة التوبة... اضافة الى مزارات عدة أهمها: مزار مار سابا، مزار مار قزمة ودميانوس، مزار مار سمعان، مزار مار شربل. ووسط هذه الكنائس والاديرة يقوم الجامع في ساحة القرية العامة شاهداً قوياً على محبة اهالي معلولا بعضهم لبعضهم وتعايشهم على اختلاف اديانهم. وهو مشهد مألوف في كثير من المناطق السورية. ومن معلولا تطل على مناظر ساحرة تتعانق منها الاشجار المثمرة مع دوالي الكروم واشجار التين والزيتون، ومعلولا عرفت الزراعة منذ القدم واعتمدت عليها اعتماداً كلياً، فكان 85$ من السكان يزرعون القمح والذرة شتاءً وبعض انواع الخضار صيفاً الى جانب الكرمة، اما الآن فقد تحولت الزراعة كلياً الى المشمش والاشجار المثمرة لمردودها المالي وقد اختفت دواليب الطواحين والافران التي اشتهرت بها البلدة وعمل فيها الكثيرون ممن نقلوا هذه الصنعة الخبازة الى بقية المناطق والمدن وصولاً الى لبنان. وقد برع فلاحو معلولا في تنظيم ري أراضيهم من مياه عيني الفج الاول والثاني ويحكى عن اعتمادهم في الماضي على الساعات الرملية حيناً وعلى الدور حسب مساحة الأرض احياناً وحاجتها احياناً اخرى. اما زراعة الكرمة التي انتشرت كثيراً في البلدة فقد كانت بعلية ومنها اكتسبت الزبيب المعلولي شهرة واسعة، وما يؤسف له ان الابنية الاسمنتية بدأت تقتحم القرية وتشوه طابعها المميز. وقد وفرت سهول المراعي في الماضي مواد أولية كثيرة من شعر الماعز وصوف الغنم ما أدى إلى ظهور صناعة الغزل والنسيج اليدوي وحياكة البسط المحلية والعبي، وبرع المعلوليون في صناعة الفخار، واطباق القش، وصناعة الدبس والجبن والزيت والتين المجفف... وللمناسبات والاعياد في معلولا طابع خاص، يختلف عن بقية الاحتفالات في سائر المناطق ويحرص الاهالي على الاحتفال بها كل عام حيث تشعل النيران في قمم الجبال وتعقد حلقات الدبكة والرقص على انغام الطبول والمزامير، وترتدي القرية نساء وصبايا رجالاً وشباباً شيوخاً وأطفالاً اجمل الثياب وازهاها وتستقبل آلاف الزوار والسياح الذين اعتادوا القدوم كل عام من مختلف الانحاء لمشاركة ابناء القرية فرحتهم. تلك كانت اضاءات على قرية معلولا المحفورة في قلب الجبل، المنسية في زحمة الايام، الغنية بتراثها وموروثها، وهي تنتظر من ينقذها وينقذ لغتها الآرامية اثمن كنز تحفظه ذاكرة من تبقى من متحدثيها، والامر لا يتطلب أكثر من باحث متخصص يجالس اهلها ويستمع الى احاديثهم محاولاً ان يحول هذه اللغة المحكية الى كلمات مكتوبة. فيحفظ لنا وللتاريخ والمستقبل كنزاً ثميناً، قبل ان يلفه الاهمال ويطويه النسيان ونضطر للذهاب الى المانيا أو الدنمارك للاستفسار عن اصول الآرامية وقواعدها وعادات اهالي معلولا وتقاليدها