الخطاب السياسي خطاب مخادع يظهر عكس ما يخفي والأقوال فيه عادة لا تطابق الأفعال. وهو مليء بالاستعارات التي نستطيع من خلالها تحليل وفهم الخطابات, فالاستعارات نحيا بها كما عبر عن ذلك جورج لايكوف ومارك جونسن وتكشف الاستعارة عن أبعادها الإيديولوجية فكل حديث عن الاستعارة هو وجه من وجوه الإيديولوجيا فهما متلازمان لأننا نفكر استعاريا ولأننا نفكر من وجهة نظر معينة ، ويدخل في هذا أيضا النقل الحي المباشر والصور الفتوغرافية والأفلام الوثائقية لأننا نرى الأشياء بحسب ما نريد أن نراه لا ما هي عليه. ترتبط الثورات بالخطاب السياسي وهو الموجه لها والثورة مصطلح يستخدمه السياسي ويمتطي صهوتها من يسيطر على المنبر ,وتسمى تمرد وخروج عن النظام بالنسبة للفريق الحاكم . وللثورة أهداف وغايات تكون أحيانا مضللة من خلال جسور وقنوات تتوسلُ بالحجاج والاقناع ولها أبعاد يستطيع السياسي أن يمرر عن طريقها الغايات التي يرمي إليها. فإذا انتصرت الثورة ينفرد قادتها أو من يسقط عليها من خارجها دون الرجوع للشعوب وهم المكون الأساسي الذي قامت عليه الثورة وتتبدد الآمال والوعود ويبرز سحر الكلام والإقناع. تناول البوعمراني حجاجية الاستعارة واستعارية الحجاج في الخطاب السياسي والآليات التي يتحقق بها الإقناع. ويطرح تساؤل هل من الممكن أن يكون الإقناع أشمل من مفهوم الحجاج؟ ويرى أن الإجابة على هذا التساؤل يعود لتصورنا للحجاج، ويضع الباحث تصوريين للحجاج وهما الإقناع الحجاجي الذي يقوم على مبادئ عقلية تعتمد على الحقائق والوقائع والأفكار المشتركة والثاني الإقناع غير الحجاجي الذي يقوم على العاطفة والإيهام. ويشير إلي أن اعتبار الحجاج قائم على العناصر العقلية هو تضييق من مجال الحجاج . فالعاطفة والخيال لهما دور أساسي في عملية الإقناع ومن الممكن أن يكون لهما تأثير أكبر وأقوى من الحجاج العقلاني في بعض السياقات. ويؤكد أن التصورات الاستعارية الحجاجية جمعت بين البعدين العقلاني والعاطفي. قام الباحث بجهد تطبيقي لتحليل خطب بعض السياسيين العرب. تناول في المبحث الأول أهم الاستعارات التصورية في خطابات جمال عبد الناصر السياسية. في مستهل دراسته لعبدالناصر يولي الباحث اهتماما واسعا للسياق التاريخي وللظروف التي نشأت فيها الخطابات مثل الحرب الباردة والثورة على المستعمر والنكبة الفلسطينية وإعلان دولة إسرائيل . وفي البداية يعرفنا الباحث بجمال عبد الناصر ويذكرنا أنه من بين الضباط الأحرار والقوميين وأنه يمتلك موهبة خطابية لا يشبه فيها أحد من الرؤساء. كل ذلك إشارة إلي دور معارفنا القبلية عن منتج الخطاب في تقديم فهم أفضل للاستعارات. وكشف عن أكثر الاستعارات تكرارا في خطب عبدالناصر وتدور في مجملها حول الثورة والأعداء والرجعية والتنمية ، نستوضح من خلالها انسجام النظام التصوري لدى جمال عبدالناصر. ويقدم عبدالناصر الثورة من مجالات متنوعة ومختلفة، فيشخص الثورة ويسند لها صفات الإنسان وأن لها مبادئ وقيم وهي أم ولها أبناء فهي كائن حي، وهي مسار لا يخلو من المصاعب والمنعرجات ولها نقطة بداية لتحقيق الأهداف. ويصور الثورة من مصادر مجالات مثل الثورة منقذ والثورة بناء وشجرة ونور و وديعة أما أعداء الثورة فاستخدم عبدالناصر استعارات رائجة يستخدمها السياسيون لكبح جماح أعدائهم. أعداء الثورة الملكية وأعوانها، الشيوعيون، والإخوان المسلمون هم رجعيون و وحوش كاسرة (جرذان) والرجعية عدو ومخدر ومعول هدم وقوى الشر. يخلص الباحث في دراسته للاستعارة التصورية في خطب عبدالناصر إلي أن الصراع مع إسرائيل لم يكن من أولوياته ولا القومية العربية ولا التركيز على الوحدة العربية من أولوياته كما يعتقد البعض عن جمال عبدالناصر. فأظهرت الاستعارات التي كان يستخدمها في خطبه أنه استخدم آلية الاستعارة لبناء مشروعه السياسي وتحصين له من أعدائه. وتناول الباحث في مبحث آخر أهم الاستعارات في خطابات الحبيب بورقيبة. وقد سار في دراسته هذا على نفس النهج الذي احتذاه عندما تناول جمال عبد الناصر. فقد سلط الضوء على السياق التاريخي والاجتماعي والمعارف القبلية للحبيب بورقيبة لفهم استعاراته. غير أنه أشار إلى سياقات عامة يقصد بها الظروف السياسية المحيطة والخلافات السياسية ، وسياقات أخرى خاصة يقصد بها المناسبات الخاصة التي قيلت فيها الخطابات مثل المولد النبوي أو تدشين مشروع أو زيارة ولاية. وأيضا يشير للسياقات القولية المتنوعة التي قيلت فيها الخطب ، منها الخطب الجماهيرية المباشرة والارتجالية والخطب الدينية في المساجد أو إذاعية أو حوارات صحفية. ويشير أن استعارة خطاطة المسار كانت مهيمنة وتحكم تفكير بورقيبة، فالكفاح والتنمية والتقدم والوحدة عبر عنها بمجالات المسار. ويكشف الباحث عن الذات المتضخمة في خطابات بورقيبة التي قدمها بصور استعارية متعددة ، فهو الرئيس المعلم وحكم عليه الباحث بأن أسلوبه تعليمي. وهو الرئيس المنقذ من ذل العبودية والاستعمار والأب وأنه من الصالحين والرسل. ويشير الكاتب إلى أن بورقيبة قدم صورة الدولة الاستعارية في خطاباته بصور استعارية مألوفة ومتكررة مثل استعارة الدولة بناء وجسد وتعاضد. وتناول الباحث تحت عنوان استعارات الهيمنة واستعارات المقاومة الأسماء الاستعارية التي أطلقت على بعض الحروب والأحداث المتأخرة والتي استمدت تسمياتها الاستعارية من مرجعيات واقعية أو ودينية مثل «عاصفة الصحراء» و«عناقيد الغضب» و «فاتورة الحساب» و«الخطة المتدحرجة» و«الرصاص المسكوب» و«جهنم» وغيرها، هدفها التأثير في الخصوم وإثارة الرعب فيهم وإرباكهم. وفي المقابل يرد الفريق الآخر باستعارات على التي شنها الفريق الأول لها بعد في الخيال الجمعي العربي والإسلامي مثل «أم المعارك» و«عملية الرضوان» و«الوعد الصادق» و«حجارة سجيل». وسمى الفريق الأول صواريخهم ب«الصواريخ الذكية» وغاراتهم «عمليات جراحية» وخسائرهم «نيرانا صديقة». وكان الفريق المقابل يرد استعاريا بصواريخ العباس وفجر ورعد وزلزال وشهاب وسجيل. يستغل الإعلام هذه الاستعارات وغيرها ويوظفها لترويج مشاريعه ودعما لمصالحه. فكل فريق يستخدم الاستعارة ليكسب التأييد والتعاطف من خلال ما تحمله من أبعاد في الذاكرة الجمعية, هذه الطريقة في استخدام الاستعارات تستخدم أيضا في مجالات ثقافية ومجالات أخرى لفرض الهيمنة وتغيير التصورات وإبدالها بتصورات أخرى. وفي المبحث الرابع عمل الباحث على خطب متنوعة لياسر عرفات يكشف من خلالها التحولات الاستعارية لديه حسب ما تقتضيه المرحلة والموقف السياسي. فتارة تبرز استعارات وتختفي أخرى حسب الظروف والوقائع، ولكن هناك استعارات ثابته التزم بها ياسر عرفات طوال فترته النضالية، فاستعارة الصمود والمقاومة لها طابع الثبات في خطبه، أما استعارات الثورة كانت مهيمنة في المراحل الأولى في خطاباته وتحضر وتختفي بحسب الأحداث والمناسبات، وكذلك استعارة السلام التي تحولت في نظر ياسر عرفات بحسب مقتضيات المرحلة من موقف رافضا للسلام إلي موقف مدافع عنه. ** ** خالد الخيران - مرشح الدكتوراه.. كلية الآداب جامعة الملك سعود