الاختلاف سنة كونيّة فرضتها تعدديّة الأفهام وإمكانات التأويل وتمايز الثقافات، ويظل ذلك الاختلاف قيمة حضاريّة سامية، وحق إنساني معلوم بالضرورة وتقرّه الأعراف البشريّة جمعاء منذ المجتمعات البدائيّة وحتى عصرنا الراهن، إلا أن دعاوى احتكار الحقيقة والمعرفة كانت أيضًا فكرة عدائيّة ولدت كتوأم مع الإيمان بحق الاختلاف، كأي حالة تُنتج شيئًا ثم لا تلبث أن تُنتج نقيضه. الأفكار الإنسانيّة الأصيلة ليس بحاجة لأن تصنع لها أتباعًا، أو تتبع سلوكيّات تصنيم عقول الحشود من أجل الإيمان بها؛ لأن العقل السليم بمفرده قادر على التسليم بصدقها، وهي تكتفي بالحديث همسًا، أمّا الفكرة المضادة والرافضة للاختلاف فإنها تتجه نحو ثقافة الاحتشاد لتدعيم موقفها الهش، ولكي تجعل من صوتها النشاز صوتًا مسموعًا، لذلك تذهب إلى تجييش الحناجر عبر أدلجتها وتخشيب عقولها لتستحيل إلى أبواق تردد ما يقوله الرموز دون وعي بجوهر ما يُقال. ثقافة الاحتشاد لا تكتفي بطمس صوت الاختلاف المهموس، بل تتجه إلى آليّة أكثر عنفًا عبر الترهيب بوساطة الثالوث غير المقدّس وهو (التآمر، التخوين، التكفير) كما أثبته خالد غزال في كتابه (البؤس النهضوي)، وهنا يتحول الاحتشاد من أداة فكرية إلى سلاح ميداني وحركي يمارس سلوكيّات عدوانيّة تكشف عن غياب التعقل في سياسة التحشيد المتأسسة على إعماء المتابع معرفيًا، وجعله آلة تستقبل الأوامر وتنفذها دون أي إخضاع للعقل أو مساءلته أخلاقيًا. ثقافة الاختلاف هي نتاج وعي مجتمعي، والوعي معول يقوّض فكرة الاحتشاد ويُسقط رمزيّة الرموز ليبقى الاحتكام إلى المنجز الفكري ومدى صلاحيته للواقع المعاش، وإن كان ذلك المنجز عقيمًا وغير قادر على ولادة منهج معرفي سليم فإن الوعي سيزهقه ويعرِّيه، وحالة الصراع هذه دعت بعض الرموز إلى شيطنة الاختلاف ومحاولة وأده وترهيب من يؤمن به، في حالة شبيهة بموقف بطل رواية (عزيف) للروائي المصري عمرو المنوفي، عندما أكال اللعنات على ثقافة الاختلاف وقال «كل من ليس يشبهنا سيء وشرير». عندما تغيب ثقافة الاختلاف في أي مجتمع فإن جذوة الإبداع ستنطفئ، ولن يكون هناك إلا التناسخ والتشابه المعطّل لأي نمو فكري ومعرفي كما يرى مصطفى دعمس في كتابه (منهجية البحث العلمي)، والذي أشار أيضًا إلى أن التاريخ خير شاهد على الصراع الدامي بين التقليد والتجديد، بين الإبداع والاتباع، وتصبح الغلبة لأحدهما وفق معطيات حرية التعبير وإمكانات التنوير ووجود ثقافة الحوار وقبول التعددية. سيادة المنهج الفكري الواحد لم تعد منسجمة مع متغيّرات الواقع الحافل بالتعدد والاختلاف، ما يفرض آليات أخرى تكفل لفئات المجتمع كافّة حريّة التعبير عن مواقفها في ضوء المسؤوليّة الاجتماعيّة التي لا تهدد أمن المجتمع وسلمه، وبحسب رؤية فهمي جدعان في كتابه (المقدس والحرية) فإن ثقافة الاختلاف والدفع بالتي هي أحسن -وفق التعبير القرآني- ومبادئ التفاهم والنقاش والتداول، لابد أن تحل محل نزعات الرفع والإقصاء والكراهية الثقافية لبناء مجتمع يؤمن بالتعايش الخلاق.