من الخطأ الجسيم أن يجتزأ أي محلل حدثاً من سياقه الكلي ويقوم بتفسير كل جزئية فيه وكأنها لا تمت بصلة لجزئية أخرى من نفس الحدث، وعلى الرغم من أن الواجب الأخلاقي للإعلامي والسياسي يفرض عليه بث الأمل في نفوس المجتمع، إلا أن ذلك لا يعني أن يقوم بتزييف الأحداث بدعوى تجميلها أو التخفيف من وطأتها، فتزييف المعلومات سيؤدي حتماً إلى تسطيح الوعي العام، وهو ما سيقود الأمة من فشل إلى فشل بامتياز مع مرتبة الشرف!، وفي خضم الحروب المحتدمة يسعى كل طرف لإظهار انتصاره وتصوير الطرف الآخر على أنه هزم هزيمة ساحقة، غير أنه كما يقول اللورد بونسومبي الحقيقة هي أول ضحايا الحروب. في اليوم الأول من أحداث 7 أكتوبر نقلت القنوات الفضائية ما قامت به حماس من اعتقال لمئات الرهائن من الإسرائيليين ومصادرة للعديد من مركباتهم العسكرية، وقد التف مئات الفلسطينيين حولهم في مشهد احتفالي يبدو وكأنه انتصار عظيم لما قامت به حماس، ولنسلم جدلاً بأن حماس خططت لعمليتها في السابع من أكتوبر بدقة متناهية، بل ونجحت في تسديد ضربات قوية موجعة لإسرائيل أهانتها وزلزلت كيانها، غير أن السؤال المهم هنا هو: هل أعدت حماس خطة للرد على رد فعل إسرائيل تجاه هذا الهجوم الكاسح والمفاجئ؟ هل وضعت في حسبانها موقف المدنيين العزل من هذا الموقف العسكري الدقيق؟. بعد نجاح حماس في تسديد ضربتها الأولى والمفاجئة أعربت عن دوافعها ووضعت شروطاً للإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، وقد تمثلت تلك الشروط فيما عرف بمبدأ الكل مقابل الكل، والآن بعد مضي ما يزيد على 475 يوماً يحق لنا أن نتساءل عما إذا كانت حماس قد حققت أهدافها، ولو نظرنا لمبادئ الاتفاق الأخير (الذي دخل حيز التنفيذ بالفعل) فسنجد أن عدد الأسرى المزمع الإفراج عنهم لا يصل إلى ألفي سجين فلسطيني، وهو ما يطرح علينا سؤالاً مؤلماً ألا وهو: هل قتل أكثر من خمسين ألف شهيد وإصابة أكثر من مائة وخمسين ألف جريح وتدمير مدن بكاملها يعد مكافئاً عادلاً أو منطقياً مقابل الإفراج عن هؤلاء الأسرى؟ وهل المقاومة يجب ألا تكون إما الخذلان التام أو الاندفاع المميت؟. من المؤكد أن كل مسلم وعربي يتمنى اليوم الذي تعود فيه للشعب الفلسطيني حقوقه المنهوبة وأراضيه المستلبة، غير أن تحقيق استعادة الأرض والحقوق لا يجب أن يتم من خلال عمليات قد تؤدي إلى قتل عشرات الآلاف من الأبرياء، وخاصة في مواجهة عدو أحمق يلقى تأييداً من بعض الدول العظمى، فما قيمة الوطن إذا كان من يسكنه جرحى ومعاقون لا يملكون بيوتاً أو مرافق أو مؤسسات تعليمية وصحية، لا يعرفون لمَ وكيف ولماذا يعيشون في وطن مهدم ولا يعرفون مصير مستقبله المظلم. من المؤكد أن قضية الشعب الفلسطيني قضية عادلة، غير أن خصومتهم كانت مع عدو أحمق يتحين أي فرصة ليقوم بإبادتهم، وبعد التوقيع على اتفاق غزة الأخير خرجت بعض قيادات حماس تعلن بنشوة انتصارها، وهو ما يدفعنا لأن نتساءل: ترى هل تحررت القدس فعلاً أم عاد كل شيء للمربع الأول، غير أنه مع الأسف لا يوجد مربع أول في الحروب، فالحرب تخلّف الدمار في كل ركن وزاوية، ومن المؤسف تماماً أنه لم يعد الآن بيت في غزة يخلو من قتيل أو جريح. خلال حرب غزة التي استمرت لأكثر من عام تناولت بزاويتي في صحيفة عكاظ المجازر التي قام بارتكابها الجيش الإسرائيلي في غزة ولبنان، غير أنني تجنبت تماماً الخوض في مكاسب وخسائر الفلسطينيين، فهم ليسوا بحاجة إلى مزيد من الألم، غير أنه بعد اتفاق غزة يجب على قادة حماس إعداد كشف حساب لما يزيد على 475 يوماً لتقديمه إلى شعبهم، يوضحون فيه المكاسب والخسائر التي حققتها هذه الحرب، وعقب خروج جموع من الشعب الفلسطيني في غزة فرحة ومستبشرة بوقف الحرب حاولت حماس الإيحاء بأن هذه الفرحة سببها نشوة النصر، غير أنني لا أعتقد ذلك، فقد يكون سبب الفرحة هو شعور البعض بوجود بصيص من الأمل في إنقاذ ما لم يتم تدميره بعد على يد الجيش الإسرائيلي المحتل، فالفرحة تجسد رغبتهم -كأي شعب في العالم- في أن يعيشوا آمنين مطمئنين على أنفسهم وعلى أسرهم.