قبل أربعة عقود قال عنه المثقف الشهير علي جواد الطاهر: كانت معرفتي به تلميذاً نجيباً، عمل في التدريس الثانوي، ثم سافر إلى أمريكا فحصل على ماجستير مكتبات... وهو في ذلك محب لعلمه منسجم وإياه انسجام وجود ومصير وتخصص. هذا الوصف يختصر ما يمكن أن يقال عن الأستاذ الدكتور والمثقف النادر يحيى محمود بن جنيد الذي ترك قبل أيام أمانة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات بعد نجاح باهر، وسيرة حسنة، وإنجازات يتحدث عنها الكثيرون، ويغفل عنها الإعلام، أو لعله يتناساها أحياناً فالمركز مؤسسة ثقافية رائدة منح المعرفة الإسلامية والعربية مشاريع غاية في الدقة والشمولية والوعي. وفي غضون عمله في المركز تولى ابن جنيد رئاسة تحرير مجلة «الفيصل» الشهيرة فأخرجها من تقليديتها على مستوى الشكل والمضمون، وأعادها إلى مجدها الأول الذي عُرفت بها ومنحها صبغة عصرية جاذبة، وأسس إلى جوارها مجلة «الفيصل الأدبية» و»الفيصل العلمية» واختار فريق عمل من الإعلاميين والفنيين المحترفين كما جرت عادته. وهو وثيق الصلة بعضوية المجلات وإدارتها بدءاً من «عالم الكتب» العريقة التي قدمتها دار ثقيف لصاحبيها الأستاذين عبد العزيز الرفاعي وعبد الرحمن بن معمر، ومجلة «عالم المخطوطات والنوادر»، وهو أيضاً مشارك دؤوب في المجلات المختصة بالمكتبات والمعلومات وهو المجال العلمي الذي أخلص له ومنحه زهر شبابه وسنوات نضجه فأصبح علامة فارقة في المجال واسماً جديراً بالاحترام والانتشار، و قد حاز جائزة الملك فيصل بالشراكة مع أستاذه المعروف الدكتور عبد الستار الحلوجي أحد أشهر المكتبيين العرب. يتمتع «أبو حيدر» الدكتور يحيى بن جنيد ببراعة علمية ساعدته على الالتفات لمناطق بحثية لم يرتدها أحد من قبل، وأسدى مهمات تعد ركائز العمل الثقافي والجهد البحثي ومكوناً لبناء المكتبة واكتمال خدماتها مثل الببليوجرافيات، وقواعد البيانات؛ ففي الأولى نذكر له ببليوجرافيا الأدب في المملكة، وحركة التأليف والنشر، وحمد الجاسر دراسة علمية وببليوجرافيا. وفي الجانب الآخر لا ينسى أحد قاعدة البيانات الإلكترونية عن الرسائل الجامعية التي تعد سنداً لكل باحث علمي. ارتبط اسم الدكتور يحيى بإدارة مشروع مكتبة الملك فهد الوطنية، ثم تولى أمانتها متوجاً بثقة كبيرة ودعم غير محدود من خادم الحرمين الشريفين أمير مدينة الرياض حينذاك، وفي سنوات محدودة أصبحت المكتبة تضاهي دور الوثائق والمكتبات الوطنية الكبرى فقد تكاملت أقسامها وخدماتها، واختار لها الأكفاء من المختصين، وحرص على ابتعاث وتدريب العديد منهم، وأصدر مئات الكتب والقوائم الببليوجرافية والمجلات المحكّمة فكانت المكتبة منارة و»أيقونة» متفردة في تاريخ الثقافة والمكتبات ودور الوثائق محلياً ودولياً. كان أبو حيدر يعمل بلا صخب ولا بهرجة أو ادعاءات لكن اسمه يزداد رسوخاً ومحبته تورق في قلوب من عرفه فهو حارس قناديل المعرفة وقائد لا يختلف عليه من عمل إلى جواره ودرج في حدائقه الثقافية الوارفة. اجتمع الناس على حب هذا الرمز وسارع الكثيرون إلى فضائه، له حظ وافر عند الشيوخ والمحققين ورواد الثقافة التقليدية، وهو أثير مقرّب من الشباب ينصتون له ويقرّون بمواقفه التي ينتصر فيها لهم، ويحتفي بهم، ويمد إليهم يد العون دائماً، ولا يتخذ منهم موقف عداء أو تهميش، وهذه السجايا جزء من شخصيته، وبهاء روحه، وسمو أخلاقه، ورحابة آفاقه فهو البشوش المتواضع دائماً لا يحمل حقداً على أحد، ولم نسمع ممن يعرفه إلا إغداقاً في المديح والحب؛ وقليل من يلقى ذلك في هذا الزمان.. ربما وصل إلى مواقع كثيرة بصمت، وغادرها بصمت كما قال عنه أبو عبد الرحمن بن عقيل، وها هو اليوم يغادر مركز الملك فيصل بصمت ليبقى باحثاً رصيناً مكللاً بحفاوة الجميع.