هذا هو الحج، حِل وترحال، وسفر وانتقال، وطواف وسعي، فيهما إسراع ثم تمهل، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ من الطواف مظهراً لإرهاب المشركين وإظهار قوة المسلمين في عمرة القضاء وأهل مكة ينظرون يظنون بالمسلمين الضعف والتراخي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه وهم يطوفون: «رحم الله امرأ أراهم من نفسه اليوم قوة»، وهرول يطوف والمسلمون به يقتدون. يقول الشيخ محمود علي أحمد: إنّ من تمام الحكمة الرياضية في الحج مجيئه في سائر فصول السنة صيفاً وشتاء، وما بين ذلك مرتبط بالأشهر القمرية؛ ليعتاد المسلم العمل والجهاد والسعي في كل وقت غير عابئ بتقلب الفصول وتبدل الأجواء، وليألف النظام والترتيب حيث حددت بعض شعائر الحج بزمن معين ووقت معلوم، كالوقوف بعرفة والإفاضة إلى مزدلفة ورمي الجمار. أليس الحج في حكمته هذه خليقاً بعناية المربين والرياضيين ومن يريدون لأمتهم قوة ونخوة وشجاعة وعزة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية. لقد رصدت الدول الأموال على الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية، فالرياضة قوة ورجولة ومروءة. وربط الرياضة بالعبادات مطلوب؛ لتشترك العاطفة والشعور مع القلب في أدائها، فتكون الرياضة قوة بدنية وعبادة روحية لها في الدنيا منافعها، ولها في الآخرة ثوابها، وإذا غرق الناس في المادة، بحيث تشغلهم عن الإنتاج النافع في الحياة، فإن الحج يوجه المادة لخدمة الحق. إن الإسلام لا يكتفي بالنظريات يقررها، ولا يقف عند حد الدعوة للحق، بل يقرن القول بالعمل والتطبيق الفعلي؛ لذا، دعا إلى التآلف والتعارف والتعاون، ثم أوجد للتعارف اجتماع الصلاة، وأوجب الجمعة والعيدين لأبناء البلد الواحد، وأوجب الحج ليكون مؤتمر البلاد الإسلامية. وقد شبّه أحد المفكرين مكة في موسم الحج بمقر هيئة الأمم للمسلمين. لقد عمت الفوضى في منازلنا ومجتمعاتنا ومؤتمراتنا حتى سئمنا حالتنا، وأصبحنا في زمن يحتاج إلى علاج عاجل ودواء شاف يقضي عليها القضاء المبرم، ويبدل حالنا من فوضى مدمرة إلى نظام معمر، ومن هياج مفرق إلى هدوء جامع. فإذا ما بحثنا عن هذا العلاج وجدناه شاخصاً أمامنا في تلك الفريضة العظمى (فريضة الحج)، فضلاً عما في إحرام الحجاج بلباس واحد وطوافهم في وقت واحد وتلبيتهم لدعوة مولاهم في وقت معين واحد بأدعية واحدة، من وحدة دينية تحتم عليهم الاتحاد والتماسك. إن في فريضة الحج درساً عملياً يدعو إلى النظام والترتيب وضبط الميعاد، ومتى صبغت أعمالنا ومجتمعاتنا ومنازلنا بصبغة النظام والترتيب أتت بالفائدة المرجوة منها، وأصبحنا في أحسن حال بفضل الله تعالى ثم بفضل إحياء شعيرة الحج في نفوسنا. وفضلاً عن تيسير السبل وتمهيد الطرق لراحة الحجاج فإن استتباب الأمن والطمأنينة على النفس والمال كان لهما اليد الطولى في ازدياد عدد الحجاج سنة بعد سنة. وإن ما نسمعه مما تفيض به ألسنة الحجاج من قصص وحكايات، وما نقرؤه في صحفنا ومجلاتنا عن تعميم الأمن وكفالة الطمأنينة في هذا البلد الأمين، ليجعلنا نؤمن بانفراده في هذا الأمر المحروم منه غيره من سائر البلاد الشرقية والغربية. وليس بغريب على بلد ركن إلى الدين الإسلامي، ورجع إليه، وطبق تعاليمه الصحيحة، أن يكون هذا حاله سراجاً منيراً يهتدي به كل ضال بعيد عن الطريق المستقيم؛ ليحذو حذوه، وينسج على منواله. - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية