يستأنس مشعر منى اليوم بقدوم ضيوف الرحمن واحتضانه لهم في أيام التشريق الثلاثة، مستغلين أوقاتهم فيها، بذكر الله بعد كل فريضة بالتكبير المقيد، وكما قال تعالى (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى). ويقضي حجاج بيت الله الحرام ليالي أيام التشريق في مشعر منى، الذي سمي بذلك؛ بسبب ما يمنيه المؤمن من إراقة الدماء فيه من الأجر، ويتجه الحجيج إلى رمي الجمرات بعد زوال الشمس، ابتداء بالجمرة الصغرى ويدعون الله بعدها مستقبلين القبلة، ثم يرمون الجمرة الوسطى، ثم يدعون الله ويرمون جمرة العقبة ويكبرون الله مع كل حصاة، مستشعرين أداء هذا النسك العظيم وما فيه من الانقياد والطاعة والحكمة البالغة التي شرعها الله في رمي الجمار، حيث إن الحكمة تعبدية لله ويرخص للضعفاء من الرجال والنساء بالرمي في الليل قبل طلوع شمس ال11، ويقضي حجاج بيت الله الحرام ليالي التشريق متأملين في سمائها وجبالها، مستشعرين فضل هذه العبادة وجزيل ثوابها، تاركين زخرف الدنيا وملذاتها خلفهم، مستأنسين بالقرب من مولاهم ومناجاته، ممتنين له بواسع الفضل والرحمة، ومن تعجل منهم يتجه قبل غروب شمس يوم ال12 إلى مكة للقيام بطواف الوداع، وفي آخر نظرة يلقيها الحاج على البيت العتيق بعد رحلة قضاها مع الله، ومن تأخر يرمي الجمرات الثلاث ويندفع إلى مكة قبل غروب شمس يوم ال13؛ ليطوف بالبيت العتيق طواف الوداع ويلهج الحاج بذكر الله كثيرا، حيث قال الله تعالى في نهاية أداء الحج (فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا). أما الحلق أو التقصير اللذان يجب أحدهما على الحاج بعد قيامه بواجبي الرمي والذبح فإنه يكون رمزا لزوال درن الذنوب ودنس الخطايا من الروح والنفس كما زال الشعر كله أو بعضه عن رأس المؤمن، كما يكون رمزا للنظافة المعنوية والزينة الروحية التي يتُوقع ممن أدى فريضة الحج أن يتجمّل بها ليكون وضعه في يومه وبعد تأدية فريضة الحج المقدسة مغايرا لما كان عليه قبلها باعتبار أن الحج لم يوجبه الله تعالى لشكله وصورته فحسب وإنما أوجبه ليصل الإنسان المسلم إلى “التقوى”.