بادئ ذي بدء، إن مبدأ التكافل الاجتماعي مبدأ تنادت إليه الأديان السماوية وتواصت فيه، ولا غرو في ذلك ففي التكافل الاجتماعي مساعدة لمن كبا به زمانه، وأبطأ به رزقه، وإن الدين الإسلامي الحنيف الذي ندين الله به حثت تشريعاته الغراء على تفعيل هذا المبدأ، كيف لا! ودين الإسلام دين اصطبغ بصبغة الرحمة والعطف. كنا نحن شعب المملكة العربية السعودية في سالف الزمان يُشهد لهذا المبدأ واقع ملموس آتى أكله، ولا عجب في ذلك فمبدأ التكافل الاجتماعي يعد ركيزة أساسية كما بعد من مجاذير هذا الدين، فعاش الناس في الماضي تحت مظلة هذا المبدأ فكان الناس مترابطين تسود بينهم الرحمة والشفقة، فالغني في هذه البلاد يقاسم ما عنده بينه وبين الفقير، فكان غني الناس آنذاك لا يُعرف كما أن فقيرهم ليس عليه علامة يعرف بها فهم سواسية في السلم الاجتماعي والاقتصادي لا توجد بينهم فروق طبقية، فقد ضرب أناس ذاك الزمان أروع المثل في تطبيق ذلك المبدأ، فكم هي القصص التي يرويها الأجداد للأبناء والأحفاد التي تجسد فيها هذا المبدأ في أروع معانيه، ومضت الأيام والسنون فتملص الناس عن التمسك بأطناب هذا المبدأ فظهرت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الناس، مما أدى إلى أن الفقير صار يتلصص على مخرجات الغني، والغني يزدري الفقير، فإذا لم نفعل اليوم هذا المبدأ ولا نجعله يسود بيننا فسيعيش الناس على شكل طبقات اجتماعية متصارعة، وفوارق اقتصادبة مقلقة. إن الفقر والغنى موجودان ما دامت السموات والأرض فهذا مبسوط له في رزقه وذاك قُدر عليه رزقه، ووحي الله الطاهر يطفح بكثير من الآيات التي هن من معاريف القرآن الكريم، وإن لوجود الغنى والفقر بين الناس هو لحكم سامية فحتى لا يبغي الناس في الأرض أوجد الله الفقر والغنى قال تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ 27 الشورى. إذا فبعض الناس لا تصلح حاله ولا تستقيم إلا بالغنى وبعض الناس لا تستقيم حاله إلا بالفقر - وعلى هوامش هذه الآية ليس معناه أن غنى الغني هو غنى لا ينقطع وأن فقر الفقير هو فقر حتمي - كلا- إنما الأيام قُلب والأيام دول.. فينقلب الفقير إلى حالة الغنى والعكس كذلك قال تعالى : وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ أل عمران 140 إذا إن غنى الغني فتنة واختبار له من الله كيف يعمل بما أفاء الله عليه، كما أن الفقر هو الآخر محنة واختبار، ليعلم الله مدى صبر الفقير على محنته، قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ فغنى الغني من هذا المنطلق ليس دليلا أن الله أكرمه ومجده، كما أنه بنفس الوقت ليس فقر الفقير دليلا على أن الله أهانه قال تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ 15* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ 16* كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ 17* وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ18 إني أرى أن أفكار هذا الموضوع تتجاذبني ذات اليمين وذات اليسار فأبتعد عن ما أريد قوله، ولكن ما ذكرته من كلام سابق هو من لوازم هذا الموضوع. وعود على بدء، إن مبدأ التكافل الاجتماعي اليوم قُوضت أطنابه وتهلهلت معانيه وضاعت مضامينه، فتوارى عنا بعيدا فتآكلت رسومه، كل هذا بسبب أن الناس في هذا العصر أصبحوا في سباق محموم في جمع الدينار والدرهم، وانعدمت أدبيات الثروة ومُثلها وأخلاقها، فصار الغني إن أعطى فهو يعطي بكبرياء وازدراء للفقير! وما علم هذا الغني أن تصرفا كهذا هو إساءة للفقير لا نفعا له قال تعالى : قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيم البقرة 263- فيا أيها الغني على رسلك إن رحى الزمان يدور، فقد تُعطي اليوم وتأخذ في الغد. إن دولتنا السنية حفظها الله تعالى ورعاها ذهبت لتُسعد الفقير باذلة كل ما من شأنه إسعاده، فقامت تُشرع النظم وتسن القوانين التي تكون لصالح الفقير، ولكن مع الأسف الشديد فإن الأغنياء عندنا يزاحمون الفقير في لقمة عيشه، فيأتي الغني ويتحيل فيقفز فوق القوانين ليشارك هذا الفقير معونة الدولة له، فكم من تنظيم وتشريع سنته الدولة حفظها الله لمساعدة الفقير إلا أن الغني يزاحم الفقير في هذا!! إن هذا التصرف المنبثق من الأغنياء لهو دليل على تأكيد ما ذهبت إليه، فمبدأ التكافل الاجتماعي مُغيب بين صفوفنا اليوم، ودعوني أصارحكم القول، فإن الله تعالى فرض زكاة الثروة بأشكالها سدا لحاجة الفقير، فلو أن كل إنسان غني أدى زكاة ثروته أو ماله كما ينبغي لما وجدنا فقيرا عندنا اليوم، وإنه مع الأسف الشديد اليوم نجد الزكاة يُشح فيها ويتهرب بعض الناس من دفعها سالكين حيلا وصورا غير مشروعة من أجل التهرب من الزكاة الشرعية!! إن كان لي بيت قصيد في هذا المقال فإني أحب أن أجليه بالآتي .. إن الدولة حفظها الله قدمت للأغنياء ورجال الأعمال بنية تحتية منفقة في ذلك أموالا طائلة كي تساعد الدولة الأغنياء ورجال الأعمال في حراكهم الاقتصادي فهم الذين أقصد رجال الأعمال لهم السهم المُعلا في الاستفادة من البنية التحتية، كما أن الدولة حماها الله قدمت القروض الميسرة وأضفت عليهم حذوة وقداسة، ومع كون أن رجال الأعمال والأغنياء يُكبدون المجتمع تكلفة اجتماعية جراء نشاطهم إلا أنهم لم يقوموا بدفع ضريبة هذه التكلفة!! إنه من أدبيات وأخلاق الثروة أن يساهم صاحبها في سد حاجة المحتاج وإيثار الغير على بعض مخرجاتهم المادية، وإنه يعتقد بعض الأغنياء أن مبدأ الجمع بين المصلحة الذاتية ومصلحة الغير أنه مبدأ ميئوس منه، وأنه مبدأ خيالي صرف، كما أنه مخالف للطبيعة الإنسانية، ولكني أقول بكل ثقة لا يشوبها شك إن الجمع بين المصلحة الذاتية ومصلحة الغير إني أراها كما يراها غيري مبدأ ممكن التطبيق بإيعاز من ذائقة الأدب فضلا عن كونه متأتيا بإيعاز من جوهر الأديان السماوية على إطلاقها وبإيعاز من المصلحين. إذا، فمبدأ التكافل الاجتماعي بين الشعوب والأمم هو من أدبيات الثروة ..إن إيثار الغير ليس تجديفا في الطبيعة الإنسانية ولا حذلقة فيها، فوحي الله الطاهر ببيان واضح أنه أحيانا يغلب الإيثار والتضحية من أجل الغير رجاء ثواب الله قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ إنه في صدر الإسلام الأول وعبر هذه الآية الكريمة نرى أن الإيثار والتضحية تتجلى في أسمى معانيها. إن دولة الإسلام في صدره الأول كانت تقوم على مخرجات التكافل الاجتماعي عبر بوابة من بيده الثروة، فكم من أزمة مالية خنقت الدولة الإسلامية آنذاك كان تمويلها عبر من بيده الثروة علما أن من قاموا بمدخلات التكافل الاجتماعي آنذاك لم تُقدم لهم من قبل الدولة الإسلامية خدمات تتمثل في البنية التحتية يستفيدون منها، كما هو الحال عندنا اليوم، هذا فضلا عن أن من بيده الثروة آنذاك لم يُكبد المجتمع تكاليف اقتصادية واجتماعية جراء حراكهم الاقتصادي، كما هو موجود عندنا اليوم. إن الله تعالى جعل في الثروة واجبين : واجبا مقيدا معلوما ويتمثل في الزكاة الشرعية وأنصبتها ويشهد في ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ 24* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ25)المعارج- كما أنه في حق الثروة حق مطلق يحكمه إيمان المسلم قال تعالى (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) إن أغنياء صدر الإسلام كأبي بكر وعمر وعثمان و عبدالرحمن وغيرهم كثير قاموا بحق الواجبين فأشاد الله بهم أيما إشادة. إن فضلة طعام الغني هي بالطبع حق الفقير فما من زاوية ترف إلا ويقابلها زاوية مسغبة ومجاعة، إنه في بعض الأحيان يقع بعض الأغنياء، كما وقع غيرهم حينما نُدبوا على النفقة على المحتاج فكان ردهم هو قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ 46 يس. إن بعض حكماء اليونان يقولون «إن المال كالسماد لا بد أن يُبسط ويُوزع على النبات وإلا أحرق النبات « وأخيرا يحق لي أن أقول إن مبدأ التكافل الاجتماعي عندنا يكاد يُحتضر، إني لا أرجم بالغيب إذا قلت لكم أنه متى ما فعّلنا مبدأ التكافل الاجتماعي فإن المجتمع سيزداد خيره ويتبارك. والسلام عليكم ورحمة الله..