يوجد أحياناً هوة عميقة وفراغ شاسع بين آمال الدولة في التنمية، أي تنمية، وآمال المواطن أنى كان موقعه؛ فالدولة - أعزها الله ورعاها - تسعى جاهدة من أجل المواطن أينما حل وارتحل، باذلة كل ما من شأنه أن يرقى بمستوى المواطن على مختلف الصُعد دون استثناء، ولكن المواطن - هداه الله إلى رشده - أحياناً تطوّح به الأنانية الشخصية بعيداً عن بغية الدولة منه، فيتمرد المواطن على أنظمة الدولة وقوانينها ولوائح ضبطها الإدارية والاقتصادية والقانونية.. إلخ. وحينما أقول هنا «المواطن» فإني أقصد به أي مواطن تمارس عليه الدولة أنظمتها وقوانينها. إن نزعة الأنانية لدى المواطن جعلت ما تبنيه الدولة دائماً في حالة هدم، فالدولة تريد أن تبني والمواطن في حالة هدم فيما تشيده من هياكل التنمية المنظورة وغير المنظورة من مكتسبات لهذا الوطن ومواطنيه والمقيمين على أرضه. إن حُب الذات وعدم إيثار النفس للغير عقبة كأداء ومسلك خطير في دروب التنمية، فلن تقوم لنا قائمة ولن نرى لنا تنمية تذكر والمواطن لا تهمه إلا مصالحه الشخصية. فمن ضروريات التنمية التناغم والانسجام مع غايات الدولة وأهدافها، فالسير جنباً إلى جنب في صف واحد وتحت راية واحدة هو من مدخلات التنمية الواعدة، فإذا ما اختلفت الإيرادات والغايات وصارت الدولة تريد شيئاً والمواطن يتطلع إلى شيء آخر فمتى يتم البنيان؟ إن المواءمة والتوفيق والتجانس مع أهداف الدولة مطلب تنموي عند جميع الدول، إني لا أقول يجب أن ينسى المواطن مصالحه ويطوّح بها بعيداً، ولكني أقول: يجب أن يكون هنالك دائماً تماس مع مصالحه ومصالح غيره، وهذا المطلب والتماس هو ضرورة حضارية فضلاً عن كونه من مضامين وأفكار الدين. إن المواطن الذي يقول: إني أرى الدولة تحول بيني وبين تحقيق مصالحي هو قصور منبعه الجهل المفرط لحيثية واحدة وهو أنه لا يعلم أن المشرع أو المنظم في أي منشط من مناشط الحياة حينما يذهب لينظم تنظيماً فإنه يرسم لأهداف عامة تغيب عن فهم المواطن، فالمشرع عندما يريد أن يشرع تنظيماً أو يسن قانوناً فإنه لا بد أن يضع في اعتباره أشياء مهمة وهي أن يخدم بتشريعه هذا الفرد شريطة ألا يضر بمصالح غيره وأن يخدم بتشريعه هذا الأجيال القادمة وألا تصطدم هذه التشريعات مع تشريعات أخرى هي أهم منها درجة ونوعاً، إن تفكير المنظم ونتاجه ليس لوحدك فقط، بل هو نتاج يخدم عدة جهات أخرى. إذن والحالة هذه، فإنه يجب على المواطن أن يغض طرفه عندما يواجهه تنظيمات لا تروق له بسبب تلك الاعتبارات التي ذكرناها مجتمعة أو منفردة، إن المنظم دائماً يقصد رفاهية المجتمع ككل ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً ولكن المواطن لا يدرك ذلك؛ إذا إن صحوة الضمير يجب أن تكون معتبرة في هذا الصدد، إن المواطن إذا حقق مصالحاً لنفسه وكانت هذه المكتسبات ليست حقاً للغير ودونما انتزاع لحقوق الآخرين وإنما اكتسبها عبر فهمه التام ووعيه الناضج من اقتناصه لفرص تلوح له في أي مجال فلا ضير في ذلك، إن المواطن أحياناً يلوم المشرع أو المنظم إن وجد قصوراً ولكن المنظم أحياناً يبني توقعاته على أشياء لا يمكن ضبطها أو التكهن في وقوعها فأحياناً يخفق المشرع أو المنظم من هذه الحيثيات ليس... إلا أن المنظم ودوره لا يعدو أن يتحسس رغبات أفراد المجتمع وهذه الرغبات عادة لا يمكن أخذها بمقياس عددي ومن ثم يصعب عليه رصدها، إذ إن دروب التنمية وهياكلها المختلفة ندركها سهلة المنال إذا اتحدت الأهداف وصلحت النيات وصارت الدولة والمواطن في حالة تماس دائم، إن بعض المواطنين يقفون أحياناً حجر عثرة أمام كل جديد ترى الدولة أنه جيد، فلكي تزدهر حضارة ما ويكون لها اطراد في النمو ينبغي ألا تكون هذه الحضارة أو التنمية شديدة الاتحاد ولا شديدة الانقسام، وهذا الكلام يحتاج إلى مزيد إيضاح، فإفراط في الوحدة ينشأ منه تعصبات عمياء وإفراط في الانقسام فيها ينشأ منه تحلل وتفسخ في الثوابت وكلا الطريقين طرفي نقيض يعيقان اطراد ومسيرة التنمية. إذن، ينبغي والحالة هذه أن يدرك المواطن ذلك، إذن، يجب أن تكون التنمية قادرة على الاختلاط في حرية مع بقائها متميزة، أي ألا تتمحور حول نفسها، بل لا بد أن يكون لها تأثيرات على غيرها، كما يجب أن تأخذ من تأثيرات غيرها، أي أن تكون دائماً التنمية في حالة حذف وزيادة وهذا الحذف أو الزيادة تستقى منه تنظيمات شرعنا المطهر أو أن نأخذها من غيرنا إذا سبقنا إليها وأحب أن أُأكد على شيء مهم هو أن كل سبق حضاري عند غيرنا هو موجود تحت أيدينا في تعاليم ديننا الإسلامي ولكنه غاب عنا ووجدت عند غيرنا، إني عندما أذكر كلمة المواطن هنا، فإنه ينصرف كلامي مباشرة إلى ذلك المواطن الذي يستطيع أن تكون له مساهمة في مدخلات التنمية - إنه يوجد في أدبيات التنمية لا سيما الاقتصادية منها بعض تلك الأشياء التي يعتقد بعض الناس عدم وجودها ومن هذه الأشياء مبدأ الجمع بين المصلحة الذاتية ومصلحة الغير، وكثير من الناس يعتقدون أن سيادة مثل هذا المبدأ هو مسلك خيالي ميؤوس منه ومخالف للطبيعة الإنسانية ولكني أقول بكل ثقة لا يشوبها شائبة: إن الجمع بين المصلحة الذاتية ومصلحة الغير إني أراه كما يراه غيري مبدأ ممكن التطبيق بإيعاز من ذائقة الأدب فضلاً من كونه متأتياً بإيعاز من جوهر الأديان السماوية على إطلاقها، فمبدأ التكافل الاجتماعي بين الشعوب والأمم هو من أدبيات الثروة، كما أن دولة الإسلام آنذاك كانت تقوم في جميع مدخلات التكافل الاجتماعي عبر بوابة من بيده الثروة، والمكان والزمان لا يتسع هنا لضرب الأمثلة الحية من واقع قدوتنا في صدر الإسلام، فكم من أزمات مالية خنقت الدولة الإسلامية كان تمويلها عبر من بيده الثروة، علماً أن من قاموا بمدخلات التنمية آنذاك لم تقدم لهم من قبل دولة الإسلام بنىً تحتية يستفيدون منها كما هو موجود عند الدول اليوم في هذا النسق الدولي ناهيكم أن من بيدهم الثروة آنذاك لم يكبدوا المجتمع تكاليف اقتصادية واجتماعية أثناء حراكهم الاقتصادي كما هو موجود عندما اليوم، إذن، إن مبدأ المصلحة الذاتية الصرفة لا تقره الطبيعة البشرية، كما أن إيثار الغير ونسيان الذات هو الآخر مبدأ لا تقره الطبيعة الإنسانية كذلك، لأن إيثار الغير على النفس بصورة مطلقة معناه ضياع الذات، كما أن إيثار الذات على الغير بصورة مطلقة يفضي بنا إلى تزاحم زخم بين الفريقين لا هوادة فيه ليس مجاله الاقتصادي فحسب، بل يتجاوز إلى الجانب النفسي أيضاً، فإقصاء المحتاج عن صاحب الثروة يشنج المحتاج مما يجعله يتلصص ويكيد لمدخلات ومخرجات الغني. إن العالم المتقدم ثمّن قيمة التكافل الاجتماعي، علماً أن الكثير لا يوافقني على ذلك، ولكن أحب أن أقول شيئاً: إن العالم المتقدم حينما عرف قيمة التكافل الاجتماعي، فليس هذا من فرط المثاليات الاقتصادية التي يملكها، لكنه لما علم أنه إذا ما أراد أن يعيش مطمئناً في مدخلاته ومخرجاته الاقتصادية، فإنه لا بد حينها أن يقوم بتلك التضحيات. ودعوني أقول لكم شيئاً هاما في هذا الصدد، إن دور الدولة والحكومات في مجال التنمية ما هو إلا دور الحارس لمدخلات ومخرجات التنمية التي تتأتى من قبل المواطن القادر. إن دولتنا - حفظها الله تعالى - كل مدخلات التنمية تأتي من قبلها، لأنه - والحمد لله - قد حبانا الله مواردا غضت بسببها الدولة طرفها عن مساهمة المواطن القادر، لأني ما علمت لبلدي العزيز إلا يدا طويلة تعطي ولم أعلم لها يدا طويلة تأخذ.. إن الدولة حفظها الله قدمت لرجال الأعمال خدمات جليلة، وأضفت عليهم القدسية الاقتصادية، ولكن المواطن والدولة أحياناً يتطلعون إلى دور فاعل من قِبل رجال الأعمال، وهذا الدور الفاعل لا أعتقد أن أحداً يغيب عنه، والدولة - حفظها الله - ما فتئت قائمة قاعدة تناشد رجال الأعمال أن يقوموا بدورهم المنوط بهم، وإني أعتقد جازماً أن سعودة الأعمال في أنشطة ومؤسسات وشركات رجال الأعمال يتربع على قمة المسؤولية المناطة بهم، ولكني لكوني راصداً شكاوى رجال الأعمال من عدم كفاءة الفرد السعودي في سوق العمل، وأنه ليس جديراً بذلك، فإني أستطيع أن أفنّد هذه المقولة بقولي لهم: امنحوهم أجوراً تضمن الحياة الكريمة لهم ولأسرهم، فإني أضمن لكم تحقيق أمجاد على أيديهم، وإنه يجب أن يسود مبدأ (اربح وربِّح) في كل علاقة إنسانية ليس في الجانب الاقتصادي فسحب. والله الموفق.