نواصل مع الجزء الثاني من مقال البروفيسور دين كيث سيمونتون Dean Keith Simonton الذي بعنوان «هل هناك علاقة بين الإبداع والجنون؟ إجابات معاصرة عن سؤال قديم»، ونشر هذا البحث في جريدة سيكياتريك تايمز (Psychiatric Times) الشهرية الأمريكية والتي تعتبر من أكثر المطبوعات انتشاراً في ميدان الطب النفسي. وفي ما يلي تبرز مجموعتان من النتائج: الأولى؛ على الرغم من كون الأشخاص المبدعين للغاية يميلون إلى إظهار درجات مرتفعة في بعض أعراض الاضطراب العقلي، فإن درجاتهم نادراً ما تكون مرتفعة بحيث تمثل اضطرابا عقليا جديا. وبدلاً من ذلك، فإن الدرجات تكمن في نطاق بين الطبيعي والشاذ. وعلى سبيل المثال بالرغم من تسجيل الكتّاب الناجحين درجات أعلى من الكتّاب العاديين في معظم المقاييس السريرية لاختبار منيسوتا، وكذلك تسجيل الكتاب الأكثر إبداعاً درجات أعلى من الكتّاب الناجحين، فإن درجات هاتين المجموعتين لا تزال أقل من درجات الأفراد الذهانيين من غير المبدعين. وفي هذه المستويات المعتدلة فإن الفرد سوف يمتلك سمات يمكن أن تعتبر في الواقع قادرة على التكيف من وجهة نظر السلوك الإبداعي؛ فعلى سبيل المثال، الدرجات الأعلى من المتوسط في الذهان ترتبط مع الاستقلالية ومقاومة الأعراف (أي التمرد)، وهي صفات تدعم الأنشطة الابتكارية. إضافة إلى ذلك، الدرجات المرتفعة في الذهان ترتبط بالقدرة على «تشتت التركيز» Defocused Attention فتتمكن أفكار من الدخول إلى العقل بدلاً من أن يتم طردها كالعادة خلال مرحلة تحليل المعلومات. هذه الطريقة الأقل تقييداً في تحليل المعلومات ترتبط أيضاً مع الانفتاح على التجريب، وهو ميل معرفي مرتبط بشكل إيجابي مع الإبداع. الثانية؛ الأفراد المبدعون يسجلون درجات عالية على خصائص أخرى يبدو أنها تقلل آثار أية أعراض للاضطراب العقلي. وعلى وجه التخصيص المبدعون يظهرون مستويات عالية من قوة «الأنا» والاكتفاء الذاتي، وبناءً على ذلك فإنهم يستطيعون أن يمارسوا فوقية معرفية للسيطرة على أعراضهم، واستغلال الأفكار الشاذة بدلاً من أن تستغلهم هذه الأفكار. إضافة إلى ذلك، فإن القدرة على استغلال الأفكار غير المألوفة يدعمها الذكاء العام، وعلى الرغم من أن الذكاء ليس مرتبطاً بالإبداع في المستويات العليا لتصنيف الذكاء فإن هناك حداً أدنى معينا من مستوى الذكاء مطلوب للإبداع الاستثنائي، وهذا الحد الأدنى هو ما يقع في نطاق الموهوبين، ويعادل تقريباً درجة 120 في اختبار حاصل الذكاء (IQ Test). المبدعون لا يسجلون - بالضرورة - حاصل ذكاء عبقري، ولكن لديهم قوة تحليل معلومات كافية لاختيار وتطوير وتوسيع وصقل أفكار جديدة، وتحويلها إلى إسهامات إبداعية. ثانياً: التفسير النظري هل تقتضي هذه النتائج ضمنياً أن الإبداع والاضطراب العقلي مرتبطان ارتباطاً وثيقاً ببعضهما بعضا؟ هل العبقرية والجنون هما بمثابة الشيء نفسه؟ الجواب عن السؤال الأول هو بالإيجاب، ولكن الجواب عن الثاني سلبي. التأكيد يأتي من حقيقة أن مختلف المؤشرات المتعلقة بالصحة العقلية تبدو مرتبطة سلبياً بالإنجاز الإبداعي. هذه الحقيقة تدل عليها مصادر من التاريخ والطب النفسي وعلم النفس. والإنكار يظهر من الواقع الحاسم - بالقدر نفسه من الأهمية - أن عدداً قليلاً من الأفراد المبدعين يمكن اعتبارهم حقاً مصابين بأمراض عقلية. وفي الحقيقة، الاضطراب العقلي الواضح - في الغالب - يكبح بدلاً من أن يساعد على التعبير الإبداعي. والأكثر أهمية أيضاً يتمثل في حقيقة أن نسبة كبيرة جداً من المبدعين لا يظهرون أية أعراض اضطراب عقلي، على الأقل ليس إلى أي درجة يمكن قياسها. ومن ثم، فإن الاضطراب العقلي ليس بأي حال شرطا لازما للإبداع، وبدلاً من ذلك لعله من الأدق القول: إن الإبداع يشترك بسمات معرفية ومزاجية محددة مع أعراض معينة للاضطراب العقلي، وإن درجة هذا الاشتراك يتوقف على مستوى ونوع الإبداع التي يظهره أي فرد وبصورة أكثر تحديداً فان العلاقة يمكن التعبير عنها على النحو التالي: بوجه عام، يتطلب الإبداع القدرة المعرفية والاستعداد المزاجي لعمل الأمور التالية: (1) التفكير خارج الصندوق. (2) استكشاف احتمالات مبتكرة، وغير تقليدية، وحتى غريبة. (3) الانفتاح على الأحداث التصادفية والنتائج التوافقية. (4) تخيل ما هو غير قابل للتصديق أو النظر في ما هو مستبعد. من هذه المتطلبات تنشأ الحاجة للمبدعين أن يكون لديهم سمات مثل «تشتت التركيز» ، والتفكير المتشعب والانفتاح على التجريب والاستقلالية ومقاومة الأعراف أي التمرد. دعونا نطلق على هذا التشكيل المعقد للسمات «مجموعة الإبداع». كلما ارتفع مستوى الإبداع، ارتفع احتمال ظهور الفرد في هذه المجموعة، إضافة إلى ذلك تتطلب بعض الحقول «مجموعة إبداع» أكثر من غيرها. على سبيل المثال، الإبداع العلمي يميل إلى أن يكون أكثر تقييداً بالمنطق والحقائق من الإبداع الفني. وتبعاً لذلك فإن خصائص «مجموعة الإبداع» هذه تكون أكثر وضوحاً في الفنانين من العلماء. ولكن ستكون هناك بعض الاختلافات حتى مع كل هذه المجالات العامة؛ فعلى سبيل المثال، الفنانون العاملون بأساليب رسمية وكلاسيكية وأكاديمية، سوف يعملون بقيود أكثر من الفنانين العاملين بأساليب فوضوية وذاتية ورومانسية. المدى الذي يُظهرون فيه «مجموعة الإبداع» سوف يعكس هذا الاختلاف الأسلوبي. لأن بعض أعراض الاضطراب العقلي ترتبط مع العديد من الخصائص التي تتكون منها «مجموعة الإبداع» ، فإن كميات معتدلة من هذه الأعراض ترتبط ايجابياً بالسلوك الإبداعي، وعلاوة على ذلك، الأفراد الأكثر إبداعاً سوف يظهرون هذه السمات بدرجة أعلى، كما أن المبدعين المشتغلين في مجالات أقل تقييداً سوف يُظهرون أيضاً هذه الأعراض بدرجة أكبر بكثير.. إلى الدرجة التي تكون فيها لهذه الأعراض أساس جيني. يمكن القول: إن الإبداع يمكن تحديده - جزئياً على الأقل - بيولوجياً. ومع ذلك فإن أعراض الاضطراب العقلي ليست المصدر الوحيد المحتمل للصفات المعرفية والمزاجية الدافعة للإبداع، يمكن للعديد من التجارب والظروف البيئية أيضاً أن تعزز تطوير «مجموعة الإبداع». وبالرغم من أن بعض هذه التأثيرات التطويرية ترتبط أيضاً بالاضطراب العقلي فإن بعضها الآخر لا يرتبط. وبالتالي من ناحية التطور الإبداعي هو في كثير من الأحيان مرتبط بالتجارب المؤلمة في الطفولة أو المراهقة، وهي تجارب يمكن أن تسهم أيضاً في الاكتئاب والميول الانتحارية. ومن ناحية أخرى فإن التطور الإبداعي هو أيضاً مرتبط ببيئة فكرية وثقافية ثرية ومتنوعة، وهي بيئة محايدة بالنسبة إلى الاضطراب العقلي. النشأة في ظل هذه الظروف تشجع ظهور العديد من الصفات المعرفية والمزاجية التي تميز «مجموعة الإبداع». ثالثاً: النتائج يدعم التفسير النظري السابق أن الإبداع والاضطراب العقلي يشتركان في مجموعة عامة من السمات، ونتيجة لذلك فالمبدعون سوف يظهرون عادة أعراضاً غالباً ما ترتبط بالمرض العقلي. تكرر وشدة هذه الأعراض سوف يختلف تبعاً لحجم ومجال الإنجاز الإبداعي. وفي الوقت نفسه، هذه الأعراض ليست مكافئة للاضطراب العقلي تماماً. إضافة إلى حقيقة كون هذه الخصائص عادة في مستويات لا يمكن ملاحظتها إكلينيكياً، فإنه يتم تخفيف آثارها بواسطة الصفات الإيجابية، مثل «الأنا» القوية و«الذكاء الاستثنائي». علاوة على ذلك، فإن الكثير من العناصر ذات الصلة بالإبداع يمكن تنميتها بواسطة العوامل البيئية التي تقلل من اعتمادها على أية ميول للمرض النفسي، ومما سبق نستنتج أن الإبداع لا يتعارض مع الصحة العقلية والعاطفية. هذا التأكيد يعززه وجود العديد من الأفراد المبدعين الذين لا يظهرون أعراضاً أو يظهرون قليلاً من الأعراض فوق المستويات الطبيعية للإنسان الطبيعي. ونتيجة لذلك ينبغي ألا يخشى المبدعون من أن العلاج الطبي للسيطرة على أية اضطرابات عقلية أو عاطفية من شأنه أن يقوض إمكاناتهم الخلاقة، ولأن العلاقات بين بعض الأعراض والإبداع محكومة بأمور معقدة، فإن أحد أهداف تدخل الطب النفسي ينبغي أن يكون لتحديد المستوى الأمثل للأداء، ومن ثم الحفاظ على الفرد المبدع عند هذا المستوى. إضافة إلى ذلك يمكن أيضاً للعلاج التركيز على تلك الجوانب من الشخصية الإبداعية التي لها ارتباط ايجابي مباشر مع كل من الإبداع والصحة العقلية. ومن الأمثلة على ذلك قوة «الأنا» والانفتاح على «التجريب». وبالرغم من أن مثل هذا التدخل العلاجي يتطلب - بكل تأكيد - تصرفاً دقيقاً وموزوناً إلا أن المهمة ليست مستحيلة بأي حال من الأحوال. وإذا نفّذ هذا التدخل بعناية فإنه يجب أن يكون من الممكن مساعدة المرضى كي يصبحوا أكثر إبداعاً وأكثر صحة في الوقت نفسه.