ومن منجزات نادي جازان الأبي سنة 1416ه إصداره ديوان الشاعر (حسن حجاب الحازمي) هذا الصوت المتعدّد الأصداء، والذي يسعى لأن يحقق ذاته في أكثر من موقع إبداعي، فنقرؤه نهمس في داخلنا، وأفواهُنا مليئة فرحاً، بمقدم فارس جديد يدخل ميدان الإبداع الأدبي بجسارة، قائلين مرحى الإبداعات الشابة من نادي جازان، لا يقنع هذا الفارس الفتي بالتعامل مع الأفواه في قصائده: بل عنون ديوانه البكر: (وردة في فم الحزن)، ثم ينطلق من هذا الإحساس ليقول في قصيدة (العيد والفرح المنسيّ) الديوان ص15: ماذا أقول وأحرفي تتلعثم ولسان شعري يحتويه العلقم؟ ماذا أقول وخلف ثغري قصة تحكي المرار، ولوعةٌ تتضرّم؟ فالأحرف تتلعثم، واللسان يعوق بالمرارة، والثغر وراءه قصة، وربما كنا نتوقع أن يقول: وفي ثغصُّ أو على ثغري، ولكن الشاعر فيما يبدو لا يقصد هذا، وإنما يقصد انه يقول: إن ما تشاهدونه فيَّ من ثغر باسم ليس دليلا على سعادتي، بل هو يخفي وراءه آلاماً (وخلف ثغري الباسم قصة.. الخ)، فهناك مأساة كامنة رابضة في الخلفيات المواربة، وها هي خلفية أخرى في القصيدة نفسها: العيد عاد، فهل ترسّم وجُههُ شعراً جميلا ثغره يبتسّمُ فأجابني صمتا وخلفَ دموعه ألم ينوح، وريشة تستفهم علماً بأن عاصفة الأسئلة، وزلزال الخلفيات بدأ منذ تفجيرات الإمام أبي الطيب المتنبي حين قال وهو يعاني الوحدة والغربة والإحباط في بلاط كافور: عيدٌ، بأية حال عدتَ يا عيدُ بما مضى أم لأمرٍ فيه تجديدُ فمنذ ذلك الحين والأسئلة تتوالى في أشكال مختلفة نوعاً وطولاً وقصراً، وحرارة وبرودة، لكن دون جواب، ولقد حاول شاعرنا الحازمي أن يشترك في صنع الجواب، لكن صوته بحّ وذهب لطيّته كسير البال، وسقط منه الكلام وتاه، ونلتقي مع الحازمي أيضاً في قصيدة أخرى من الديوان نفسه (ص62) عنوانها، (وقفة على قبر النبي)، حيث تمتلئ شفاهه موتاً وصمتاً، حتى تجاوز بها الامتلاء درجةَ التحمل، فيتسرب ما بالشفتين إلى الجسم كله، فكله نداء كليلٌ لا يُسمع صداه. يقول الحازمي: تلفَّتُ من حولي، فأيقنتُ أنني نداءٌ كليلٌ، صوته ليس يُسمعُ وما من مجيبٍ غيرُ همسٍ من الصدى وغيرُ نُباحٍ في الصدى يتقوقعُ فجئتكَ ياخير النبيين ذابلاً على شفتيَّ الموت صمتاً يوقّع فهل لي سبيل نحو موت يريحني وهل لي إلى قبر يضمُّك موضع؟ ويخاطب ابنه (حسّان) وقد اغترب عنه بعض الاغتراب (الديوان نفسه ص78) فيقول: حسَّانُ، يا بسمةً تنمو على شفتيَّ لو أبصرت عينُك الجدران تصطخب وفي قصيدته (دموع على شفاه اللاجئين ص96) من الديوان نفسه يقول: تتنفس الأوراق حلماً يائساً والعُمر يمضي، والوعود سرابُ والريح ترسل كلّ يوم أحرفاً في ثغرها قُبَلٌ لها أنيابُ وتشتد التياعات الخطراوي، وتتناثر حرائقه هنا وهناك، وتستعصي على وسائل الإطفاء (أسئلة الرحيل ص29) تحت عنوان: (حرائق الأمس) فيقول بصوت متهدج ظامئ مضرج بآلامه: أنا آتيك غربةً والتياعاً وشراعاً ممزَّق الأسلابِ وعيوناً مؤرقاتٍ، حيارى وسديماً محرّق الأعشاب وشفاهاً مضرّجاتٍ، ظِماءً نسيت في الحياة طعم الشراب فلتكوني الرحيق والفيض، إني عاكفٌ فيك، لا يزول ركابي ومن الديوان نفسه تحت عنوان: (بكائيات ص73) يقول: وحين صرختُ سددتِ فمي تريدينني ميّتاً؟ متُّ، فلتنعمي..! وتحت عنوان: (العصفور والموسم ص117) يقول: وحين تغضبين يا حبيبتي تصطفق الأحزان في دمي تصطرخ الأشجانْ ويستبدُّ الخوف بي تختنق الحروف في فمي ينتحر الكلامْ تنفجر الأيام بالغضب ويبدأ الشجار! وفي قصيدة (قبلة ص27) من ديوان علي محمود طه تلتقي في المطلع بالأبيات التالية: قبلةٌ من ثغرك الباسم دنيا وحياةٌ تلتقي الروحان فيها، والمنى، والصبواتُ لغةٌ وُحِّدت الألسن فيها واللغات نبعُها القلبُ، ومجراها الشفاه النّضرات وفي أحد مفاصلها يقول: ولزمنا الصمتَ إلا نظرات تتكلّمْ وشفاهاً عن جراح القلب راحت تتبسّمْ إن إصرارنا على الاستمرار في إيراد الأمثلة المختلفة، ومن شعراء مختلفين لا يجمع بينهم غير انتسابهم لعصر إنما يرمي إلى التأكيد على انه لكل عصر لغته الابداعية الخاصة به، بل إن ذلك كائن حتى بالنسبة للأجيال، فلنكرر النظر في هذه التراكمات.