قال تعالى: (اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم وتشهد ارجلهم بما كانوا يكسبون) سورة يس/65. وقال: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون) سورة الصف/8. وقال: (يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون) سورة التوبة/8. آيات تدل جميعها على قيمة الفم حين يمتلىء بالخير وحين يمتلىء بالشر، فيكون في جميع أحواله عظيم التأثير، بعيد المحزّة، بل وتمتد وظيفته إلى الآخرة، وبؤساً لفم امتلأ بالكفر والنفاق والشر، وطوبى لفم امتلأ بالإيمان والصدق والخير. وقد يمتلىء بالشكوى والألم، يقول الشاب الظريف الديوان ص 306): أعيذ محيّاه، إذا رمتُ، إنني أعيدُ إليه ناظراً يتوسم وألقى سناً لو كان قلب حروفه لعيني به، لم يَشْكُ وحشتَهُ فَمُ وفي ديوان (البراق ص27) للشاعر السعودي محمد المنصور/ بعنوان (تاريخ الأفعال) يقول: ولي جسدٌ يَباعْ غيّرتُ للنخاس لوني وانتصبت على الشفاه دراهما وجهين: أضحكُ بالذي أبكي به وفي قصيدة: (الموت من الداخل) الديوان نفسه ص 54 يقول متورّكاً السراديب، والقبور، والأفواه والأشداق: السراديب قبورٌ في فمي يضحك الجِنّانُ في أشداقها تعلك الحمىّ، وتُلقي بالطّمي من دمي. والجناحان يطيران، وتهوي الألسنة في السنين الآثمة كمموا أفواههنَّ السود بالصُّم الصِّلادْ فرّقوهن سبايا في البلادْ وفي مجال الوطنية يقول الشاعر أمل دنقل في مجموعته الصغيرة الكبيرة: (أقوال جديدة عن حرب البسوس) ص22. تحت عنوان: (أقوال اليمامة): هي الشمس التي تطلع الآن.! أم أنها العين عين القتيل التي تتأمّل شاخصةً: دمَهُ يترسّب شيئاً فشيئاً.. فتطلع من كل بقعة دم: فمٌ قرمزيّة وزهرةُ شرْ وكفان قابضتان على منجل من حديد.! إنه أمل دنقل حين يتكلم عن مآسي العروبة، وعودة الحروب بمنطق القبلية البغيضة، وبروح حرب البسوس، فالفم مليء بالدم، وبزهورالشر التي لا تلد إلا شرَّا، ولا تعبق إلا بشر، وبقرب ذلك كفان ممسكتان بمنجل من حديد، متهيئتان لخوض الحرب القبلية القذرة من جديد. يقول أمل دنقل في مجلة: (آفاق عربية) 1981م في حديث حول هذه المجموعة: (حاولت أن أقدم في هذه المجموعة حربَ البسوس، التي استمرت اربعين سنة، عن طريق رؤيا معاصرة، وقد حاولت أن أجعل من (كليب) رمزاً للمجد العربي القتيل، أو للأرض العربية السليبة، التي تريد أن تعود إلى الحياة مرة أخرى، ولا ترى سبيلا لعودتها، أو بالأحرى لإعادتها إلا بالدم.. وبالدم وحده). والغريب أن هذا الديوان الدنقلي يكاد يكون فيما أعرف أصغر ديوان بالعربية، على صغر بعض ما نشره نزار قباني، ولكنه كبير في شأنه، عظيم في مراميه، وما جدوى الهراء الذي نشهده فيما ينكر من دواوين ضخام، لا تساوي المداد الذي كتبت به..! * وفي ديوان (صلاة ورفض) للشاعر محمود حسن اسماعيل / تحت عنوان: (رفض الهزيمة) ص 13/ يعني هزيمة (1967م) يقول: شيء منه انتفض الأمسُ وشقّ حشايَ على سكّين وأتى يزأر في شفتيه قسمُ الثأر بالف يمين: لن أتركها، وخزةَ عارٍ فيَّ لعين.! لن أتركها.. يُطرقُ منها أيُّ جبين. فشفتاه مليئتان بقسم الثأر الذي لخصه في سطرين أبيين، يرفضان تلك الهزيمة النكراء، ولكنه الرفض الإيجابي الذي يعيد الكرة للبناء، ولا يستسلم لوسواس الاندحار والتخاذل والخواء. وفي قصيدة: (صوت المعركة) ص 75/ من الديوان نفسه يقول في ختامها مخاطبا الصوت: زمجرعلى كبدي.. على جسدي على روحي المزنَّر في خيالك..! واعصف على قلبي.. على دربي.. على وتري المصفد في حبالك وانزف لهيبك في دمي، وعلى فمي واصهر وجوديَ في اشتعالك..! إن فمه كدمه مليء باللهيب النازف من معاناة الصدام مع العدو بالتطلع للمعركة القادمة التي يعتقد فيها النصر. * ونختم بشاعرنا السعودي/ أحمد يحيى بهكلي/ وهو من الشعراء الذين لم يُعطَوْا حقهم من الدرس والاهتمام، يقول في قصيدة له بعنوان (عامان) ديوان أول الغيث ص 51/ متحدثاً إلى البطل الفلسطيني: عامان مرَّا، كأن ما مرّ عامانِ وأنت تُخصِبنا قسراً كبركانِ عامان يا سيدي، ما رفرفتْ شفةٌ إلا جريتَ عليها نهر ألحانِ عامان يا سيّدي، كفّاك ما وهَتَا من كسر صخر، ومن تحطيم صوّانِ انظر معي هذا التكرار (عامان.. الخ) المؤلم إيلام تكرار سقوط القنابل وتتابع وابل الرصاص على رؤوس أطفال الحجارة، وانظر هذا النداء الجارح: (يا سيدي)، ولنسل جميعا على الأرض مع الشاعر نهر أحزان دائم لا نهر ألحان متقطع.