* ويرتبط الحلم بالفم عند الشاعر محمد إبراهيم يعقوب، كما رأينا في نموذجه الذي أوردناه آخر المقال السابق، وكما نجده أيضا في الديوان نفسه (رهبة الظل ص 70)، وذلك حين يقول ومخه مليء بمزيج من الفرح والترح، مختلطة في صوته الألوان والأوان: وكيف اتقائي رهبةَ الظل، والمدى نبوءات شمسٍ والزوايا خناجرُه وكيف أعيد الحلم، ليس سوى فمي وليس سوى وجه المرايا أحاوره وفي ص 75 بعنوان: (تطويح في فضاء الذاكرة) يقول: أنا طفل خرافي وتاريخ من الشمس أجغرفُ.. وجه أيامي وأجلو لوعة الخُرْس وأشتمُّ ابتهاجَ الرو ضِ، من إيماءة الورْس تراخى الليل فوق فمي وأرخى لذة النّعس فساقيت المدى وتراً وغنّى الحلم في يأسي * ونلتقي مرة أخرى بثغر الحياة الذي سبق أن التقينا به عند شوقي ومحمد هاشم رشيد، وهو مليء هنا بالأغاريد في جو رومانسي حالم لا يحسن إبداعه إلا محمد هاشم رشيد وأضرابه من شعراء الرومانسية ممن تتلمذ عليهم أو تتلمذوا عليه شعريا، ففي قصيدته (موكب النور الأعمال الكاملة 1/29) يقول: على الأفق الباسم الناضر وفوق الثرى الحالم العاطر وملء الروابي وقد هوّمتْ على نفحات الشذى العاطر وبين السفوح، وفي صدرها يرفّ شعاع الضحى السافر ترانيم حب عميق المدى ترفرف كالحلم الناضر وأغرودة فوق ثغر الحياة ترحب بالموكب الطاهر إن ريشة محمد هاشم رشيد وأضرابه من كبار الشعراء الرومانسيين هي وحدها القادرة على خلق الأجواء الباسمة الناضرة، الحالمة العاطرة، السافرة روابيها وسفوحها بالضوء الضاحي والحافلة أمداؤها بالألحان والأغاريد، يستطيعون فعل ذلك حتى بالبيئات الأشد قحالة وضآلة، في تصميم منهم رائع على تجميل الحياة وتخفيف أعبائها بتلك الوسائل المثيرة المبهجة. * وصورة حلوة أخرى يقدمها محمد هاشم للفم المليء غناء كاشفاً لنا عن صورة القلب الرابض فوق فمه، لولا الحشو الذي جاء بضغط من القافية: (من ثغري)، إذ المعنى انتهى بقوله: (وفوق فمي قلبي يكاد يفرُّ)، ولكن جمال البيت الذي تلاها تضيع معه كل الملاحظات وليعذرنا أبو طه، يقول بعنوان: (قبلة حائرة الأعمال الكاملة 1/38): وترقرقتْ جفناه واختلجت شفتاه في خَفَر وفي طهر وطفقتُ أرمقه، وفوق فمي قلبي، يكاد يفرُّ من ثغري وكأن في شفتيه أغنيةً نشوى من الأحلام والعطر وانشغال الصديق الشاعر أبي طه محمد هاشم رشيد بالألحان والأنغام والغناء على المستوى الشعري والرومانسي هو الذي شغل الأفواه والثغور في شعره وجعلها مليئة بالغناء والأغاريد والألحان حتى كأنها تحولت الى أداة من أدواته الرومانسية التي يستعيرها لإتمام رسم مشاهده وتجميلها وتزيينها، يقول تحت عنوان: (الزنبقة الحزينة الأعمال الكاملة 1/42): طعامها من أضلعي ومن دمي وعطرها لحن الهوى على فمي (طعامُها: أي طعام الزنبقة). وفي قصيدة: (الحسن الخالد 1/48) يقول: وتسبح روحي بدنيا الجمال وتنهلُ من نبعه الزاخر وأحيا بثغر الهوى نغمة مخلّدة.. كالسنى الباهر ولا ندري لماذا يؤثر شاعرنا لفظ (الثغر) عن لفظ الفم، فتكثر في شعره، وقد تعمدت أن لا أسأله عن ذلك لاعتقادي أنها محض مصادفة أو أنه يحس حينما يعبر بكلمة ثغر أنه يكون قد ارتقى بعض الارتقاء عن مستوى تعبير العوام بالفم يقول في قصيدة (قبل الوداع 1/50) مستعملا الذرائع نفسها: غداً حين نحيا بأحلامنا ونطوي الحياة بآلامنا وننساب في خفق أنغامنا كلحن يذوب بثغر الكمان وترنيمة في حنايا الوتر ويبدو أننا نحن الشعراء نلتقي كثيراً على الفكرة الواحدة والمعنى الواحد دون ميعاد ولا سابق تدبير وأحيانا يدخل الشعراء أبواباً من التحدي وطلب التفوق في تناول بعض المعاني التي قد يكون سبقه إليها آخرون، بالإضافة الى ما أشار اليه النقاد بأن هناك قدرا من المعاني والأفكار شائع الملكية ليس هو حكراً على أحد، بل هو عام ومتداول ولا عيب في ذلك أو قصور وبهذا ينفتح الباب واسعاً أمام النقاد للموازنة بين الشعراء. وهكذا نجد الأغاني والأناشيد والألحان والأنغام ملأت أفواه أكثر الشعراء في معرض الغزل والوصف والمديح. يقول الخطراوي تحت عنوان: (كلمات احتجاج) من ديوان (مرافىء الأمل ص 42): وأطلقت كل المواويل في داخلي ملأتِ شفاهي غناءً وأشعلت فيها الأماني فهبت نشاوى تصفق للحلم وفي مجال الغزل يقول تحت عنوان: (الظمأ إليك) مرافىء الأمل ص 16 يقول: وعلى فمي تثب الحروف نديةً ترتاح في أحضانها أشعاري وترق حتى تستحيل إلى صدى قمريّة ولهى وشدو كنار ظمأ يلازمني إليك معاقر للقيظ، معقود برأس النار وماذا سيعلّق الخطراوي على شعر الخطراوي، وإلى لقاء..