أوضح الشاعر حسن السبع أن هنالك حساسية مفرطة تجاه الثقافات الأخرى، حساسية مفرطة تجاه الأفكار، وانفتاح مفرط على ما تنتجه تلك الثقافات من بضائع استهلاكية، مشيرا إلى أنه هناك اعتقاد خاطئ بأنه يمكن التعامل مع تلك المنتجات بمعزل عن القيم المصاحبة لها. ويلفت إلى أن الحداثة ليست نصاً شعرياً أو نثرياً فحسب، وهي ليست استهلاكاً للمنتجات الغربية، أو تقليداً للغرب على الصعيد المعيشي، فهذه حداثة التمثيل لا التمثل. الحداثة طريقة تفكير وسلوك قبل كل شيء. ويقول السبع إن الجدة لا تعني الحداثة، إلا أن يكون الجديد حديثا. »الحياة» التقت حسن السبع وحاورته حول تجاربه الشعرية، وقضايا ثقافية وفكرية. فإلى تفاصيل الحوار. تحفل تجربتك الشعرية بالتنوع والتجدد، لكن يلاحظ أن هناك ما يمكن اعتباره خصوصية، أو على الأقل ملمحاً، وهو حضور اللون بشكل طاغ في قصائدك الشعرية، هل من فلسفة معينة؟ هل نبدأ بالأبيض والأسود مدخلاً للحديث عن الألوان، فهذه ثنائية تستدعي إلى الذاكرة موجةً من الدلالات المرتبطة بهذين اللونين كالنور والعتمة، الخير والشر، السلم والحرب، دلالات إيجابية أو سلبية عن اللون قد لا تكون صحيحة، لكنها تظهر في عباراتنا اليومية: يد بيضاء، قلب أبيض، يوم أسود. وهكذا... هنالك إذاً انطباعات محفورة في الذاكرة عما هو إيجابي وما هو سلبي في كثير من شؤون الحياة وكأنها مسلَّمات، مع أن المسألة نسبية حين تتعلق بالألوان أو القيم. فلا الأبيض يمثل الضوء بشكل مطلق، ولا الأسود يمثل العتمة، لكننا نصنف الألوان وكل المظاهر الأخرى وفقاً لما اعتقدنا صحته بفعل التلقين والتكرار. فلون الغيرة أصفر، ولون الطيبة أبيض، ولون الحزن أسود. وقد تساءل الشاعر أمل دنقل، وقد عانى بشكل يومي من بياض الملاءات والأسرة وأربطة الشاش والقطن وأقراص المنوم وأنابيب المصل قائلاً: «كل هذا البياض يذكرني بالكفن/ فلماذا إذا مت يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد؟»، ومثله فعل ميلان كونديرا في روايته «خفة الكائن التي لا تحتمل»، فثنائية الخفة والثقل ليست بعيدة تماماً عن ثنائية السواد والبياض. والمسألة من وجهة نظره نسبية. فلا الخفة إيجابية، ولا الثقل سلبي. لم أكن أتصور أن لأيام الأسبوع والأسماء والأرقام ألوانها الخاصة لدى بعض الأشخاص، حتى قرأت رأي أحد المصورين هو هانز شوارتز الذي يقول: «الألوان ليست إحساساً فقط في شبكية العين، بل هي عاطفة وشعور. أيام الأسبوع لها ألوان، فيوم الخميس بالنسبة لي هو لون بني، ويوم الاثنين لون أخضر، وليس أزرق حزيناً، ويوم الجمعة بنفسجي»، فهل للبيئة الثقافية تأثيرها في هذا الربط بين الألوان والأشياء؟ وهل يبدو يوم الاثنين أزرق حزيناً، كونه بداية الأسبوع عند الأوروبيين، كما يبدو يوم الجمعة بنفسجياً، لأنه اليوم الذي يسبق العطلة الأسبوعية عندهم؟ قد لا تكون لذلك أية علاقة بالبيئة الثقافية، وإنما بإحساس الفرد الخاص بالأيام والأسماء والأرقام. أما إدوارد دي بونو فاختار لكل طريقة من طرق التفكير لوناً خاصاً في كتابه «قبعات التفكير الست»: فالأبيض موضوعي ومحايد، والأحمر عاطفي، والأسود سلبي، والأصفر متفائل، والأخضر مبدع، والأزرق منضبط ومنظم التفكير. سيقودنا الحديث عن ألوان التفكير المختلفة إلى تأمل موقف المصاب بعمى الألوان. فهنالك عمى ألوان من لون خاص لا يرى صاحبه، أحادي الرؤية، إلا لونين هما الأبيض والأسود (الصواب والخطأ)، لأنه لا يؤمن بتجاور ألوان الطيف المختلفة. فكل الألوان الأخرى سوداء، وبسبب هذه النظرة الضيقة، يسيل الأحمر بغزارة، ويحرق اليابس والأخضر. العالم حافل بالألوان، وأخطر التوجهات على مر التاريخ هي تلك التوجهات التي لا ترى إلا لوناً واحداً أو لونين. وقد كانت مصدراً دائماً للعنف. أيضاً يمكن التوقف عند الزمن كهاجس في منجزك الشعري، هل هذا مؤشر على الخوف من الموت، وماذا يعني لك الفناء؟ هذا قلق قديم وهاجس دائم ترك أثراً بالغاً في تاريخ الإنسان ومعتقداته وفلسفاته وفنونه. ولكم تمنى الإنسان كشف سر هذا الزمن والانتصار عليه، وتمنى أن يوقف تقدمه، أو يعكس اتجاهه، أو «يصطاد» لحظاته الهاربة. وللشاعر أدونيس نص يجسد هذا المعنى «أنت تعتقل الوهم.. وهو هنيهة.. هنيهة يعتقل الزمنَ ويرميه في حوض الكلمات». تركت فكرة الزمن أثرها في الشعر وبقية الفنون. فالفن محاولة لمقاومة الفناء، أو رغبة في القبض على اللحظة واحتوائها، والإبقاء على عنفوانها وحيويتها، أو تحنيطها على طريقة قدماء المصريين. وهو القلق نفسه أمام التردي التدريجي الذي يصيب الكائن، التردي الذي يدب في جسم الإنسان، فيغتال أعضاء الجسد الواحد تلو الآخر. حيث يذبل في كل لحظة تمر جزء من خلايا الجسد. وقد عبر أبو نواس عن ذلك بقوله: «دبَّ فيَّ الفناءُ سفلاً وعلوا/ وأراني أموت عضواً فعضواً/ ليس من ساعةٍ مضتْ ليَ إلا/ نقصتني بمرّها بيَ جزوا». أفلا يبدو بعد هذا أن إعادة تشكيل تلك اللحظات هي أحد دوافع الكتابة؟ ألا يشير ذلك إلى شيء مما يعنيه أحد الكتاب بقوله: «إني أكتب لأقاوم الموت». بلاهات النقاد هل يمكن أن تكون شجاعاً وتذكر أسماء أثَّرتْ فيك، شعرية أو روائية في السعودية؟ لا يتطلب الأمر قدراً كبيراً من الشجاعة ليعدد الكاتب أسماء الذين تأثر بهم من الساحة المحلية. لكني لست مضطراً لاختراع أسماء لا وجود لها لأثبت شجاعتي الأدبية. أذكر أنني ذات مرة، وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي، دخلت القسم الثقافي لإحدى الصحف المحلية، وسلمت رئيس القسم قصيدة جديدة، فأعطى القصيدة مستشاره الثقافي (!) الذي قرأها وعلق قائلاً: «أرى فيها نَفَس الشاعر فلان». ولم أكن يومها قد قرأت لذلك الشاعر قصيدة واحدة. في السياق نفسه يروي الشاعر بابلو نيرودا أنه قرأ، مرة، قصيدة له على أحد النقاد، وبعد أن استمع إليها سأله قائلاً: «أنت متأكد أن هذه الأبيات ليست متأثرة ب (سامات أرسكاني)؟ فرد نيرودا قائلاً: «أعتقد أني متأكد»! وأرسكاني هذا شاعر من أورغواي. وهي تعليقات يلجأ إليها بعض النقاد ليضفوا أهمية على آرائهم، وليوحوا لغيرهم أنهم محيطون بكل شاردة وواردة. لكنها أشبه ما تكون بثرثرة رواد المعارض الفنية حول لوحة. «ولا أحد يسمع من البلاهات ما تسمعه لوحة في متحف!» كما يعبر أوسكار وايلد. لكني لا أذيع سراً إذا قلت أنني مدين لكل الأسماء الجميلة في عالم الكلمة، وللتراث الشعري العربي، وللمنجز الإبداعي الشرقي والغربي، القديم منه والحديث. لمَ يطغ على مقالاتك الأسبوعية، الاستشهاد بمقولات المثقفين والمفكرين الغربيين، في الوقت الذي يغيب حضور مثلائهم العرب، وبخاصة المعاصرين؟ أستشهد بتلك الآراء والأفكار، لكني في المقابل أستشهد بكثير من الآراء والأفكار المضيئة لبعض الكتاب العرب المعاصرين. بل إني لا أجد حرجاً في الاستشهاد بآراء الناس العاديين كذلك. الفكرة وحدها هي ضالتي أحتفي بها من أي مصدر جاءت. ولعلك قد لاحظت أنني استشهدت هنا بالشاعر الكبير أدونيس مرتين. لكن يبدو أن هنالك حساسية مفرطة تجاه الثقافات الأخرى، حساسية مفرطة تجاه الأفكار، وانفتاح مفرط على ما تنتجه تلك الثقافات من بضائع استهلاكية. وهنالك اعتقاد خاطئ بأنه يمكن التعامل مع تلك المنتجات بمعزل عن القيم المصاحبة لها. ويبدو أنها معادلة صعبة، وأن مثل هذه (الفلترة) متعذرة. ذلك أن للمبتكرات المادية المستوردة تأثيراً مباشراً على أنماط السلوك والعادات وأنساق الحياة المختلفة، كما أنها عامل من عوامل التحولات الثقافية والقيمية. إنها شبيهة ببعض الأدوية التي لا تخلو من بعض الآثار الجانبية الإيجابية أو السلبية. اعترض أحد الكتاب مرة على استخدامي عبارة للشاعر الفرنسي بول إيلوار: «لقد مات الشعراء»، وهي شهادة على تقهقر الأخلاق والقيم الجميلة وتخشب الضمائر، وضياع الحقيقة في تيه الأهواء والمصالح. وقد اعتبر صاحبنا عبارة إيلوار «كلاماً مستورداً». لكن الحكمة والكلمة الجميلة ضالتنا جميعاً، وهي ليست «بضاعة» نخشى إن نحن جلبناها أن تنافس الإنتاج المحلي. ترى، من ذا الذي يستطيع أن يعزل نفسه عن هذا العالم الواسع الثري بثقافاته وتجاربه. ما سبب رفضك تصنيف الشعر، على رغم حضور تنويعاته الثلاثة: تفعيلي، وعمودي، ونثر في دواوينك؟ وهل الحداثة الشعرية شكل... وماذا عن العناصر الأخرى؟ الشعر موجود في كل تلك الأشكال، لكن هنالك قناعات جاهزة يخطف بريقها الأبصار، ومسلَّمات ذات تأثير سحري، نقع تحت تأثيرها كما يقع المنوم مغناطيسياً، ثم لا نبذل جهداً للتحقق من صدقها. من ذلك، مثلاً، أن الوزن من أسباب تخلف النص الشعري. لكننا لم نجد متعصباً لهذا الرأي يوضح لنا بشيء من التفصيل كيف تخلف هذا النص الموزون، وكيف تفوق غيره من النصوص الشعرية المتحررة من موسيقى الشعر، شريطة أن تكون النماذج المختارة كأمثلة على ذلك الإخفاق منتقاة من حديقة الإبداع، وليس من سلة مهملات الشعر، فالسلة مليئة بتلك النماذج الرديئة التي تراكمت على مر العصور، والتي لا تناسب إلا الذائقة العامة الميالة للتطريب والشعر الخطابي. هكذا اعتبر أصحاب ذلك الرأي النصوص الملتزمة بنظام الإيقاع شكلاً خارج دائرة الحداثة. وقد تساوى، وفقاً لهذا الميزان، الذهب والخشب. وانتهت هذه القناعات إلى رفض لنظام الإيقاع الشعري لا يميز بين نص رديء وآخر مميز، كما أسهمت في الاحتفاء بكل نص متحرر من نظام الإيقاع أياً كانت قيمته الجمالية، فبرزت في الساحة الأدبية كتابات غارقة في فوضى ليس لها قرار، ضحت بنظام الإيقاع الشعري (شكلاً) ولم تحافظ على روح الشعر (مضموناً). الوزن ليس عائقاً دون التحليق في فضاء اللغة الواسع. وإذا استطاع النص الموزون أن يحقق تجانساً بين شكله ومضمونه، وأن يعيد صياغة الأشياء في سياقات جديدة، وأن يحافظ على عفويته وتلقائيته، وإذا استطاع الشاعر أن يوفق بين الشكل والمحتوى، فليختر الشكل الذي يريد. ويمكننا أن نقول الشيء نفسه عن النص النثري الذي لا يستطيع الوزن أن يضيف إليه بريقاً جديداً، وأن أية محاولة متكلفة ل(موسقته) قد تشوهه أو تحيله إلى جثة هامدة. هل الحداثة الشعرية «شكل»؟! وماذا عن العناصر الأخرى؟! - فلنتفق أولا على أن الحداثة ليست نصاً شعرياً أو نثرياً فحسب، وهي ليست استهلاكاً للمنتجات الغربية، أو تقليداً للغرب على الصعيد المعيشي، فهذه حداثة التمثيل لا التمثل. الحداثة طريقة تفكير وسلوك قبل كل شيء. والحداثة الشعرية ليست حكراً على شكل تعبيري واحد، بل موجودة في كافة أشكال التعبير الشعري. كما أن الجدة لا تعني الحداثة بأي شكل من الأشكال. إلا أن يكون الجديد حديثاً وفي هذا السياق يعلق أرنستو ساباتو قائلاً: «تعتقد إحدى شخصيات بروست.. إحدى سيداته التي تثير السخرية أن ديبوسي متفوق على بتهوفن لا لشيء إلا لأنه أتى بعده»! وهي إشكالية يقع فيها كل من يهتم بالشكل على حساب المضمون، ويقع فيها من لا يميز بين الجدة والحداثة. وقد أدرك الشاعر أدونيس هذا اللبس وغيره من الإشكالات الأخرى فأشار إليها في بعض مؤلفاته التي تناولت الشعرية العربية. صورة المثقف السعودي صورة المثقف السعودي تميل إلى الجدية والصرامة، إلى درجة لا تكون مقنعة في كثير من الأحيان، بخاصة عندما يتصدى لقضايا سرعان ما تتكشف أنها خاسرة. يبدو المثقف أقرب إلى صورة «الشهيد» منه إلى كائن يعيش حياته بكل عواطفه، السؤال هل هذه هي بالفعل صورته، أم أنه يستعيرها من آخرين، أو من حقب اندثرت؟ - أذكر أني كتبت مرة عن ذلك الهدوء الذي «يلحق» بالعاصفة. وما يميز مراحل العمر الأولى هو تلك الرغبة المتقدة في تغيير العالم وإصلاح حال الكون، عبر أحلام وتصورات قد لا تؤسس على رؤية واضحة. في مسرحية «هذا الجيل المحظوظ» لمؤلفها نويل كاورد لقطة تعبر عن تلك الجدية والصرامة والاندفاع الجارف مع ما يصاحبه من استخدام للكلمات الكبيرة الرنانة. ويبدو أن الأمم كالأفراد تقول كلاماً كبيراً صاخباً عنيفاً قبل أن تنضج.. لافتات كبيرة وصخب ينقصه المنطق. الحلم بتغيير العالم أو إعادة ترتيبه شيء مشروع. الكل لديه تلك الرغبة في التغيير إلى الأفضل، وأما ما هو الأفضل فتلك مسألة نسبية. لم أقصد بالهدوء الذي (يلحق) بالعاصفة الاستكانة والهرب واللامبالاة والبحث عن الخلاص الذاتي. وإنما المقصود بذلك الوصول إلى مرحلة من النضج، بعد تجاوز مرحلة المراهقة الثقافية والكلام الإنشائي الانفعالي الصاخب. وقد ابتلي بعض المثقفين بهذا الهوس الثقافي والفكري فرفعوا لافتات بعيدة عن اهتمامات وأولويات الواقع، واقتاتوا على موائدها زمناً طويلاً. كانت النوايا حسنة بالتأكيد، لكن اللافتات لم تكن قابلة للاستهلاك، وذلك لعدم اكتمال شروط استهلاكها. كان ذلك شبيها بمناقشة قضايا مجتمع ما بعد الحداثة في مجتمع لم يمر بالحداثة بعد.