النظر بعين متفحصة إلى ما تشهده الساحة السياسية الإيرانية هذه الأيام بين أنصار المعارضة والنظام، يبعث على القول إن من السابق لأوانه الزعم بأن النظام الإيراني، أمسى قاب قوسين أو أدنى من الانهيار أو أن إيران باتت على شفا ثورة مضادة. لقد افتقدت الجماعات القائدة للتظاهرات والاحتجاجات التي تعم شوارع العاصمة الإيرانية كما بعض المدن الأخرى إلى تكتل ليبرالى ديموقراطي متماسك ومتناغم ينشد التغيير الجذري، وكانت في غالبيتها حركات احتجاجية على أوضاع متردية في الداخل والخارج علاوة على تعسف النظام وآلته الأمنية في التعاطي مع المتظاهرين والمعتقلين على خلفية الاحتجاجات ولعل ما أوردته صحيفة «تايمز» من أن الطالبة الشابة ندى سلطان لم تكن سياسية ولم تصوت حتى في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وإنما تجاهلت نصائح عائلتها وذهبت مع مدرس الموسيقى للانضمام إلى تظاهرة ضخمة تنظمها المعارضة في العاصمة طهران، يحمل دلالات تعزز، ولو جزئياً، من سلامة هذا الطرح. كذلك، بدت تلك التظاهرات كما لو كانت عملاً درامياً خطط له النظام ويديره ببراعة ويضبط إيقاعه بحنكة بالغة، إذ ارتكزت قيادات التظاهرات والقوى المحركة لها والضابطة لإيقاعها على رجالات النظام المحسوبين عليه في الأساس، فلا يزال الثقل الرئيس في المعارضة سواء في شقها الإصلاحي أو في تيار المحافظين المعتدلين البراغماتيين يتمثل في رجالات الثورة، الذين تنحصر دوافعهم للاحتجاج على استمرار أحمدي نجاد وانحياز المرشد له، فضلاً عن الاستياء من مبالغة النظام وقواته في قمع المتظاهرين والتعامل مع المعتقلين، كما تمحورت مطالبهم حول تعديل صلاحيات الولي الفقيه فقط وإنهاء التحالف بين خامنئي ونجاد، وليس الإطاحة بالنظام برمته أو إدخال تعديلات جذرية عليه. وفيما تحرك المواجهات الحالية بين النظام والمعارضين في الذاكرة الإيرانية والعالمية مقدمات ثورة عام 1979، تُبرز أية مقارنة موضوعية بين الحالتين اختلافات واضحة بينهما في وسعها أن تقود إلى نتائج مغايرة في الحال الراهنة. ففي حين خرج آلاف المتظاهرين الى شوارع طهران صبيحة يوم الجمعة 8 أيلول (سبتمبر) 1978، ما دفع حاكم طهران العسكري إلى مطالبة رجاله بإطلاق النار عليهم حتى قتل منهم أربعة آلاف متظاهر ليسمى هذا اليوم «الجمعة السوداء»، يخرج هذه الأيام آلاف المتظاهرين معظمهم من الشباب المتوسطي الأعمار ومن النساء يرفعون شعارات مماثلة ك «الموت للديكتاتور»، ويسقط منهم عدد محدود جداً من القتلى، إلا أن آلاف المتظاهرين قبل ثلاثين عاماً تحولوا إلى ثلاثة ملايين، كما نجح الخميني وقتذاك في استقطاب كل القوى المحيطة بالشاه، والتي كان يستقوي بها لتعزيز نفوذه وتمديد بقائه في السلطة، كالجيش والبازار والطلاب وغيرها، وهو ما قد لا يتسنى لمتظاهري هذه الأيام، الذين خرجت تظاهرات مضادة موالية للنظام الراهن مطالبة إياهم بالعودة إلى رشدهم. كما لا تستطيع قيادات الاحتجاجات الحالية اجتذاب الجيش أو قوى الأمن الموالية لمرشد الثورة ورئيس الدولة كالحرس الثوري والتي هددت بالتدخل لقمع التظاهرات الحالية ما لم يتراجع القائمون بها. من جهة أخرى، لا تمكن مقارنة الخلافات الحالية بين الإصلاحيين والمحافظين بتلك التي كانت قائمة بين الشاه والخميني، فالأولى صارت أمراً مألوفاً في إيران بل سمة من سمات نظامها السياسي منذ تدشينه في العام 1979، خصوصاً أن كلا التيارين الإصلاحي والمحافظ ينحدران من أصل واحد هو نظام ولاية الفقيه الذي يتخذ كلاهما منه مرجعية وقاعدة لكل تحرك. كما سبق أن أسفر الخلاف بين جناحي النظام الإيراني عن مواجهات دامية تفوق في حدتها بكثير ما يجري اليوم من دون أن تجهز كلية على ذلك النظام، الذي نجح في امتصاصها واحتوائها بأقل كلفة سياسية ممكنة. ففي الأيام والأشهر الأولى بعد نجاح الثورة الإيرانية شهدت البلاد حرباً تشبه حرب الشوارع بين أنصار التيار الديني من الشباب المعممين وأنصار التيارين الليبرالي واليساري من الشباب الذين يضعون في غرفهم صور تشي غيفارا وشعار الاتحاد السوفياتي السابق «المطرقة والسندان»، سقط على أثرها عدد كبير جداً من عناصر الثورة وقيادات الحلقة الضيقة التي كانت تحيط بالخميني من تلاميذه ومرافقيه عندما كان منفياً في تركيا أو العراق أو فرنسا، ومع ذلك، بقي النظام واستمرت الثورة. لا يعني هذا التحليل أن لا جديد ينتظر النظام الإيراني جراء الأحداث الدائرة، بل على العكس، يمكن الادعاء أن النظام قد غرق حتى أذنيه في أزمة سياسية محكمة تزداد حدتها يوماً بعد يوم، ومن أبرز ملامحها: تفاقم الصراع بين الأجهزة المنتخبة وغير المنتخبة داخله، فضلاً عن تنامي الاستقطابات السياسية الحادة على نحو ما تجلى في وجود تقارب بين التيار الإصلاحي وما يسمى الجناح المعتدل البراغماتي داخل التيار المحافظ، الذي بدأت التصدعات تضرب أطنابها في بنيانه. يأتي هذا بالتزامن مع تصاعد استياء رجال الحوزة الدينية في قم، الذين يعتبرون خط الدفاع الأخير عن نظام ولاية الفقيه، من أداء المرشد والرئيس والأجهزة الأمنية إلى حد مطالبة رجالات تلك الحوزة بإعادة هيكلة النظام، الذي اهتزت صورته أمام الجميع ليس لأنه فشل فحسب في وقف سيل الاحتجاجات بعد أن تجاهل الشعب نداءاته، ولكن بعد أن وصل الأمر بمتظاهرين إلى حرق صورة المرشد وصورة الخميني في ذكرى يوم الطالب أوائل الشهر المنقضي، كما طالب رجال الحوزة الدينية في قم بإعادة النظر في سلطة ولي الفقيه بما يحول من دون احتكاره وحده لسلطات واسعة تسوغ له التسلط والقمع. ويتجلى أبرز ملمح لأزمة النظام الإيراني في تنامي التداعيات الأمنية المقلقة، كالعمليات التفجيرية والنشاطات العسكرية، والمشكلات الإثنية التي ظلت لعقود كامنة تحت السطح، كقضية الأقلية السنية التي تمثل ما بين 15 و20 في المئة من جملة الشعب الإيراني قرب حدود إيران مع باكستان وأفغانستان والعراق وتركمانستان، فضلاً عن البلوش والزرادشتيين الذين يشكون من وطأة تهميشهم والتمييز ضدهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية. وهو ما نددت به مراراً منظمات حقوقية وإنسانية دولية وأكده مراقبون حقوقيون إيرانيون يرون أن التوتر والعنف اللذين يجتاحان إيران أخيراً وعلى نحو متواتر ومكثف، إنما يتصلان بخلل في قضيتي المواطنة والتنمية، فإيران مثل بقية دول المنطقة تعاني خللاً واضحاً في علاقتها بقطاعات من مواطنيها، ذلك أن النظام الإيراني يستثني مواطني الأقليات من المناصب الرفيعة في أجهزة الدولة، علاوة على أنه مقصر في تنمية الأقاليم التي تعيش فيها تلك الأقليات. إنطلاقاً مما سبق، يجوز الزعم بأن اشتداد وطأة الأزمة السياسية الراهنة للنظام الإيراني في مقدورها أن تمهد السبيل لتغييرات سياسية حتمية، وإن جاءت محدودة وهامشية، من شأنها أن تمتص الصدمات والهزات التي تعصف بالبلد منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بغية الحيلولة دون استفحالها على نحو يهدد بقاء النظام برمته. ومن ثم، يتوقع حدوث مستوى ما من التغيير لاحتواء التوترات الحاصلة وليس تغيير ذلك النظام، ربما يتجلى في عملية أكروباتية لإعادة توزيع الكراسي بغرض ترميم النظام وإطالة أمد بقائه كما كان يجري في السابق، إضافة إلى إضفاء الصدقية على مساعي صرف أنظار الغرب والمجتمع الدولي عن تطورات برنامج إيران النووي. ولعل هذا الطرح يتماشى وتطلعات الثقل البارز والموجه للمعارضة الإيرانية والمتمثل في شخصيات سياسية ودينية ذات وزن مثل الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي والمرشح الرئاسي الخاسر مير موسوي ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام ومجلس الخبراء هاشمي رفسنجاني، والذي لا يزال يجنح باتجاه الإمساك بالعصا من المنتصف بمعنى إدخال تعديلات وإصلاحات بغرض ترميم نظام ولاية الفقيه من دون تقويضه أو الإطاحة به مع رفض أي تدخلات خارجية أو السماح للاهتزازات الداخلية بالنيل من استقرار البلاد ووحدتها وتماسك نظامها السياسي، الذي ربما ينجح في تجاوز أزمته الراهنة لكنه قد لا يفلح في الإفلات من العودة إلى سيرته الأولى حيث الانقسامات والصراعات الكامنة بين أجنحة جيل الثورة، الذي آثر البقاء في جنبات المربع الأول منذ تدشين نظام الولي الفقيه قبل عقود ثلاثة خلت. * كاتب مصري