إنه العيد، الصخب يملأ أمكنة المدينة ويشيع ضجيجاً في الشوارع والأزقة. أطفال يفترشون الحدائق العامة وصبايا وشباب ضاقوا ذرعاً بجدران البيوت الصغيرة وآثروا الاحتفال في مقاهي دمشق الحميمة. إنه العيد، الأسواق متخمة بأشهى أنواع الحلويات والأطعمة، السكاكر تتباهى بألوانها أمام الدكاكين لتجذب مزيداً من الذواقة. إنه العيد، مناسبة تدفع بعضهم الى التفكير في المحتاجين والأيتام والمرضى، وبعضهم الآخر الى العطاء والمساعدة لعل الفرح يطاول هؤلاء أيضاً. إنه العيد، الأمكنة كلها ضاقت والمساحات الرحبة صغرت، ولكنه يكاد يعجز عن العثور على منزله، وبالأحرى، لم تعد كل المطارح تتسع له فتشرد مرتين. «كل شيء يصبح مستفزاً في العيد...!» يقول إبراهيم ويشيح بعينيه المتعبتين ثم يتابع وهو يمجّ سيجارته بشراهة وعصبية... «لا مكان للهدوء في الأعياد، كل الأشجار مشغولة وكل الأزقة الدافئة يحتلها الأولاد، لا مكان لي، لا بيت لي». إبراهيم متشرد في الأربعين من عمره، تعوّد أن يفترش سريره الكرتوني في إحدى زوايا حارات المدينة أو تحت شجرة من أشجار الحدائق العامة ويخلد للنوم. عاش إبراهيم حياته يتيماً في بيت عمه الوحيد الذي رباه، وكان يعمل مع عمه في ورشة لتصليح الأحذية لكي يعين الأسرة في المصاريف. لم تكن لديه الفرصة ليتعلم في المدرسة، كغيره من الأطفال ولم تساعده الظروف ليبني حياة لائقة... انتهى به الأمر مشرداً. يقول إبراهيم بنبرة خشنة: «بعد وفاة عمي وزوجته، بقي منزلهما الفقير الذي استضافني سنين طويلة لابنة عمي الوحيدة وزوجها». ويضيف: «على الأقل، لدي مكان في ذاك البيت أترك فيه أغراضي وثيابي النظيفة... أذهب مرتين في الأسبوع كي أستحم وأغسل ملابسي!». يعمل إبراهيم «عتالاً» بالأجرة، ينطلق كل يوم منذ الصباح الباكر إلى مركز المدينة، حيث يجتمع مع غيره من العاطلين من العمل في انتظار الفرج، والفرج هو أن يأتي أحدهم ويطلبهم للعمل في «العتالة»، ونقل الأغراض الثقيلة. مرات، يوفّق إبراهيم ويكسب ما يعينه على شراء سجائر وعشاء رخيص، ومرات أخرى، كثيرة يعود إلى «اللامكان» الذي يقطنه خالي الوفاض. ويقول بامتنان: «هذا الجسد القوي لا يزال يعينني على كسب قوتي»، مع أن هذا القوت الذي يكسبه لم (ولن) يمكنه يوماً من دفع أجرة غرفة تؤويه. قانون العقوبات السوري يعالج حالة التشرد في المادة 600، والتي تعرّف المتشرد بأنه «كل صحيح لا مسكن له ولا وسيلة للعيش ولا يمارس عملاً منذ شهر على الأقل، ولم يثبت أنه سعى السعي الكافي للحصول على عمل»، ويذهب القانون السوري إلى أبعد من ذلك، فيعتبر المتشرد مجرماً يستحق السجن بالحبس مع التشغيل، من شهر إلى ستة أشهر كي يصبح عبرة لمن اعتبر. وتشير مواد القانون نفسه، بخجل، إلى إمكان احتضان المشردين، في ما يسمى «دار التشغيل»، بغية حمايتهم من الجوع والبرد ومساعدتهم على إعادة بناء ما تبقى من مستقبلهم. ولكن هذا ليس واقع الحال، إذ تحولت دار التشغيل إلى ما يشبه مأوى للعجزة والمحتاجين ليبتعد كل البعد عن هدفه الأساس وهو أن يكون دار أمان لأولئك الذي لا منزل لهم، من أمثال إبراهيم. وعلى رغم أن مشردين ومحتاجين كثراً يتلقون المساعدة من جمعيات أهلية وخيرية في سورية، تستمر أعداد المتسولين في الازدياد، ليس فقط في دمشق بل في محافظات أخرى مثل دير الزور وحلب وغيرها، وبخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نسبة الفقر والبطالة المرتفعة التي لا تزال تسجلها سورية. جسد إبراهيم القوي، كما وصفه، والذي يعينه على العمل لا يزال يحميه من أن يصبح مجرماً بحسب القانون، وتالياً من أن يجد سجناً يلوذ به. وبينما يميز القانون بين المتشرد والمتسول، لا يجد ناس كثر فرقاً بينهما، فيسارعون إلى رمي بضع ليرات شفقة للمشرد الذي ينام في الطريق. يقول إبراهيم بأسى: «أشعر بالإهانة كلما استيقظت ووجدت حفنة من الليرات بجانبي». ويتابع: «لم تساعدني الحياة في أن يكون لي منزل يؤويني، ولكن هذا لا يعني أنني شحاد، أنا لست متسولاً». يطوي ابراهيم سريره الكرتوني ويلف غطاءه الرقيق ثم يختفى في ضجيج الأزقة المحتفلة باحثاً عن بعض الخصوصية.