استقبلت صحافة العالم تنصيب باراك أوباما رئيساً على الولاياتالمتحدة بسيل من المقالات تناول الدور والموقع الأميركيين في العالم من وجوههما المتفرقة والكثيرة. والحق أن الدور والموقع هذين كانا موضوع تناول ومعالجة طوال عام 2009. فغداة تشخيص مؤرخ الاقتصاد، نيال فيرغسون، حال العالم الاستراتيجية العامة، في 2006، بسمة بارزة هي وقوعها أو مجيئها «ما بعد أميركا»، أي بعد تربع الولاياتالمتحدة قطباً أوحد في سدة العالم في 1985 - 2005 تصدرت الفكرة تحليل عدد من المعلقين. وفريد زكريا، رئيس تحرير «نيوزويك انترناشينال» وصاحب برنامج «فريد زكريا غلوبال بايلك سكوير» على محطة «سي أن أن»، أحد هؤلاء. وهو نشر كتاباً في أثناء العام المنصرم وسمه بالعبارة نفسها. وعلّق على المسألة، في صحيفة «لكسبريس» الفرنسية الأسبوعية (12/11/2009)، بالقول: «ما على الولاياتالمتحدة الأميركية، قبل انتخاب أوباما الى الرئاسة وبعد انتخابه، معالجته والتعاطي معه هو نشوء (باقي العالم) وقيامه وجهاً لوجه مع الولاياتالمتحدة. و (باقي العالم) هو قوة الصين الجديدة، وخروج الهند من دائرتها وركودها، واقتفاء البرازيل وأندونيسيا وغيرهما آثار الدول الكبيرة والناشئة هذه (...) ولعل باراك أوباما نفسه هو ثمرة التغير هذا وعامل مؤثر في تسريعه». قضايا محورية ويحصي زكريا قضايا العالم المحورية في المرحلة الانتقالية الحالية التي يصفها برجحان القوة الأميركية ومركزيتها، من جهة، وبضرورة تعاونها مع المناطق والدوائر «الناشئة» في جهات العالم، من جهة ثانية، واضطرارها الى «اقتسام سلطانها». ف «على الولاياتالمتحدة، اليوم، مفاوضة الصين دفاعاً عن مصالحها المالية، ومفاوضة روسيا على مستوى التسلح النووي العالمي، والاتحاد الأوروبي على حماية قواعد التجارة الدولية، والبرازيل على مكانتها في أميركا اللاتينية». ولا يقود التخلص من الأحادية القطبية الى الإقرار بفضائل نظام يكرس كثرة الأقطاب. وترجح كفة «نظام» انتقالي فوضوي «مقيد» و «عام» معاً. ويلاحظ زكريا أن الرئيس الأميركي يحسن تعريف خياراته السياسية، ولكنه ينتهج في إعمالها وتنفيذها «نهجاً مبعثراً وقاصراً»، مثاله الإخفاق في تظهير إلغاء الدرع المضادة للصواريخ في شرق أوروبا، وإبلاغ البولنديين والتشيخيين الأمر على صورة قرار اتخذ بمعزل عنهم وليس عليهم إلا الانصياع إليه. ومن فواتح استقبال ولاية الرئيس الجديد اقتراح ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، ومارتن انديك، سفير واشنطن في تل أبيب سابقاً ومدير مركز دراسات شرق أوسطية في العاصمة الأميركية، «استراتيجية أميركية جديدة تبادر الى معالجة قضايا الشرق الأوسط» («فورين أفيرز»، 1 -2/2009). وتنهض الاستراتيجية المقترحة على أركان معقدة خمسة، هي: 1) دعم الولاياتالمتحدة سيرورة رفع القيود عن العمل السياسي والحريات العامة وبناء المجتمع المدني وإرساء حكم القانون والإقرار للمرأة بحقوقها، 2) خفض استهلاك الولاياتالمتحدة النفط والترويج لمصادر بديلة وإبطاء عجلة التغير المناخي ولجم حركة نقل الثروات من الغرب الى إيرانوروسيا وفنزويلا، علاجاً لتعزيز الاستهلاك نفوذ «الأصوليين المتطرفين في إيران وغيرها»، 3) تولي الولاياتالمتحدة دوراً فاعلاً في «كبح الهيمنة الإيرانية» الناجمة عن إطاحة نظامي طالبان بأفغانستان وصدام حسين بالعراق وتعثر حرب العراق، وذلك من طريق التفاهم مع قوى رائدة «للحؤول دون بلوغ إيران مراحل متقدمة من برنامجها النووي»، وأولى هذه القوى روسيا والصين: فينبغي استمالة الأولى لقاء عضويتها في منظمة التجارة العالمية وتقييد الصواريخ الباليستية الأميركية وال «ناتو» بأوروبا وإنشاء بنك وقود نووية روسية، واستمالة الثانية في ضوء انفجار أزمة تموين نفطي كبيرة ونتائجه على استقرار الصين السياسي، 4) تخيير القادة الإيرانيين بين المصالح الثورية وبين بقاء الدولة، ومفاوضتهم مباشرة على إرساء نظام إقليمي جديد تتعاون فيه إيران مع دول الجوار و «تقبل ببسط نظامها سلماً»، وطمأنة العرب وإسرائيل وتركيا الى ضمانات سياسية ونووية في مواجهة إيران، 5) تحريك عجلة عملية السلام الإسرائيلي - العربي في وقت متزامن مع المفاوضات الأميركية - الإيرانية، وتعجيل تذليل مشكلات المفاوضات السورية - الإسرائيلية «اليسيرة»، وإنشاء «قوة دولية قيادتها عربية تعيد بسط سلطة السلطة الفلسطينية (على غزة)، وتشرف على الانسحاب الإسرائيلي» إذا اجتاحت إسرائيل غزة (كتبت المقالة قبل حرب غزة). واستعجل معلقون روس (افتتاحية «نيزافسيمايا غازيتا»، 26/1) ظهور «جدة» خطوات العهد الأميركي الأولى. فملاحظة الصحيفة إصدار أوباما في «الساعات الأولى من ولايته» قراراً بإغلاق معتقل غوانتانامو، وتوجيهه تعليماته الى مبعوثه الخاص الى الشرق الأوسط جورج ميتشل، والى ريتشارد هولبروك، مبعوثه الخاص الى جنوب آسيا، ومبادرة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية، الى تعزيز التنسيق بين وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي ومجلس الخبراء الاقتصاديين، واقتراحها زيادة موازنة الخارجية الأميركية وتعزيز برامج المساعدات الخارجية. وتتضافر الإجراءات هذه على «بعث الديبلوماسية في السياسة الخارجية الأميركية»، على قول الصحيفة الروسية. وتتوقع هذه أن يسوغ تنازلُ وزير الدفاع، روبرت غيتس، عن صلاحية قيادة مكافحة الإرهاب الى وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي «السياسيين»، الطلبَ الى حلفاء واشنطن زيادة قواتهم بأفغانستان، والمراهنة على المفاوضات الإقليمية بجنوب آسيا بديلاً من الحسم العسكري. وترصد الصحيفة الروسية الإعلان عن اشتراك ويليام بيرنز، المندوب الأميركي «الرفيع»، في المعالجة السداسية للملف الإيراني النووي. وتصف إشارات واشنطن الى موسكو بالغموض. وتتساءل عن إعداد موسكو للمرحلة الآتية، وخططها لأجل ملاقاة السياسة الأميركية. وأملت الصحيفة الكورية الجنوبية «يونغانغ دايلي» (22/1) أن يوازن أوباما بين مفاوضة بيونغ يانغ مباشرة، خارج إطار مفاوضات الدول الست (الولاياتالمتحدةوروسيا والصين واليابان الى الكوريتين)، وبين دور العلاقة بكوريا الجنوبية «مفتاحاً من مفاتيح استقرار شمال شرقي آسيا»، وإشراكها في هندسة الحل العام. ولا تقتصر علاقة سيول بواشنطن على المسألة الكورية. فبين البلدين مسألة اقتصادية عالقة وراجحة هي اتفاقية التجارة الحرة التي وقعتها سيول، وتحفظ عنها الحزب الديموقراطي قبل فوز أوباما، ويتحفظ عنها حزبه «الحمائي»، ويتخوف نتائج الاتفاق على صناعة السيارات. ودعا إعجاز حيدر («دايلي تايمز» الباكستانية، 24/1) الإدارة الأميركية الجديدة الى دمج الهند، مع باكستان وأفغانستان، في إطار معالجة مشتركة لقضية طالبان و «القاعدة»، والإرهاب عموماً، في جنوب آسيا. فدعم باكستان الحل بأفغانستان شرطه مساعدة باكستان على التصدي لمشكلتها مع الهند، ولملابسات القضية الكشميرية. وإذا شاءت الهند «الاندماج في العالم، وفي نظام الولاياتالمتحدة الأمني»، و «انتهاج سياسة دولة عظمى» على ما تقول وتطمح، فعليها «ألا تتورط في مشكلات صغيرة». ولعل مثال المشكلات هذه مسألة كشمير، واستقلالها الذي ينصح الكاتب الهند بإعادة النظر فيه. وإذا عجزت الهند عن الارتقاء الى هذه المرتبة، فعليها انتظار «مبعوث (أميركي) خاص»، على غرار هولبروك الذي عيّنه أوباما «على» باكستان وأفغانستان. أميركا «الثانية» وفي مناسبة عقد مؤتمر الأميركتين بترينيداد وتوباغو، في أواخر نيسان (ابريل)، غداة رفع الإدارة الأميركية الجديدة بعض القيود على التجارة مع كوبا، اقترح باتريك سيميس («نيوزويك» الأميركية، 21/4)، وهو كاتب ومعلق على أحوال الجزيرة، على واشنطن أن تهدم الجدار الذي يفصل ميناء غوانتانامو من الجزيرة، وإباحة بيع المنتجات الزراعية الأميركية في السوق الكوبية مباشرة، من غير وساطة «دولة» فيديل كاسترو وموظفيها، ومن غير اقتطاعاتها. والحال هذه «على هافانا إما قبول الأمر، والرضوخ لتبادل السلع الأميركية بأسعارها المنخفضة، وإما الإقرار بأن حواجز التفتيش الكوبية قائمة بأمر من كاسترو نفسه»، وخدمة لمصالح موظفيه. وفي أثناء المؤتمر، وجه الرؤساء اليساريون، هوغو تشافيز الفنزويلي ودانيال أورتيغا النيكاراغواني... نقداً مسترسلاً الى الولاياتالمتحدة وسياستها. ولم يثمر صمت أوباما وابتسامة رجوع تشافيز عن مساندة القوات المسلحة الثورية الكولومبية وتسليحها وعن شحن أحمال المخدرات من كاراكاس الى جهات العالم (خورخي كاستانيدا، «نيوزويك»، 5/5). ولم تثن القمة موراليس عن رعاية زراعة الكوكا، ورافاييل كوريا الاكوادوري عن غلق قاعدة مكافحة المخدرات في مانتا. ولكن الحقيقة، على خلاف ما يظنه المحافظون الأميركيون الذين نددوا بمصافحات أوباما وإصغائه الى الرؤساء اليساريين، هي أن أوباما رد مطالب الرؤساء الجنوبيين، وأولها رفع الحظر على التجارة مع كوبا. واشترط على هافانا، لقاء استجابة الطلب هذا، الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإباحة سفر الكوبيين، وإلغاء ضريبة ال20 في المئة التي تتقاضاها الدولة الكاستروية على الحوالات الى كوبا، على ما اقترح باتريك سيميس وغيره. وفي الدائرة العربية (الفلسطينية) - الإسرائيلية كان رفض نتانياهو التزام تجميد الاستيطان تمهيداً لاستئناف المفاوضات، مدوياً. وكانت الانتخابات الرئاسية الإيرانية، ثم الاتفاق الإيراني - السداسي بجنيف وعودة طهران عنه، اختباراً آخر للعالم الانتقالي و «فوضاه»، على رغم تفاؤل جوناثان تيبرمان بألا تشذ طهران النووية عن «منطق الردع» («نيوزويك»، 15/9).