لا تفسّر مهارات طاهر بن جلون الكتابية وحدها أهميته كروائي من الطراز الأول. فما يجذبنا في رواياته الكثيرة هو حسّه الإنساني العميق الذي يدفعه غالباً إلى تسليط الضوء على حياة الناس البسطاء والمعذبين الذين لا تُسمع أصواتهم داخل هدير مجتمعاتنا الأنانية والسطحية، وقدرته المذهلة على الانسياب تحت جلدهم وكشف بؤسهم ومشكلاتهم لنا بحساسيةٍ وعبقريةٍ نادرتين. ولعل أفضل مثالٍ على ذلك هو روايته الجديدة التي صدرت حديثاً لدى دار «غاليمار» الباريسية تحت عنوان «في بلدي»، والتي يعالج فيها القدر المأسوي للمهاجرين المغاربة الذين قدموا إلى فرنسا في الأربعينات من القرن الماضي سعياً وراء لقمة العيش. بطل الرواية رجلٌ مسنّ يدعى محمد، بلغ سن التقاعد بعدما أمضى الجزء الأكبر من حياته في إحدى ضواحي باريس كعامل في مصنع للسيارات. ومنذ الصفحات الأولى نجده في حال اضطرابٍ شديد نظراً إلى استحقاق التقاعد الذي يتربّص به ويدفعه في اتجاه مستقبلٍ مجهول وقاتم. وللإفلات من محنته التي تشتد يوماً بعد يوم، يقوم بجردة حساب لحياته التي أمضاها بين العمل والصلاة اللذين شكّلا ملجأه وعزاءه الوحيدين. وفي فوضى نفسه الكئيبة والقلقة، تتقاطر صور الماضي: طفولته في قريةٍ صغيرة نائية، زوجته التي اختارها من قبيلته، رحيله شاباً إلى فرنسا، وسنوات الكدّ الطويلة كعاملٍ نموذجي في مصنعٍ شكّل له المكان الوحيد الذي لم يشعر فيه بانه عبء على أحد. وفي سيرورة التذكّر هذه، تتشابك تأمّلات هذا الرجل الرقيق والتقي الذي يكره التعصّب وينبذ العنف والعنصرية المتعاظمين في المكان البائس الذي يعيش فيه. ويتساءل عن مصير أولاده الذين وُلدوا في فرنسا واندمجوا في مجتمعها، فلم يتمكّن من أن ينقل إليهم حبّه لوطنه وتقاليده وقيَمه الإسلامية، أولاده الذين كان يتأمّلهم بحبٍّ كبير وهم يقومون بواجباتهم المدرسية، وها هم اليوم ينظرون إليه كرجلٍ عجوز وصامت ويرفضون التماثل به. ابنه البكر مراد تزوّج من فرنسية، وابنه الثاني عثمان تزوّج من فتاة مغربية متعجرفة لأنها من الدارالبيضاء وهم من أصل قروي، وابنه الثالث رشيد تحوّل إلى ريشار، وابنته جميلة غادرت المنزل مع شاب إيطالي بلا عودة... وهذا ما سيدفعه، في اليوم التالي من دخوله مرحلة التقاعد، إلى مغادرة فرنسا والتوجّه من دون تردّد إلى قريته المغربية لتحقيق حلمه الوحيد: تشييد منزلٍ كبير يلم فيه شمل عائلته المشتتة. وما أن يجهز المنزل، حتى يتّصل بأولاده ويدعوهم إلى حفلةٍ كبيرة، ثم يجلس في مدخل المنزل ويبدأ في انتظارهم، فتمرّ الأيام والأسابيع ولا يأتي أحد. فقط ظلٌّ أسود ومخيف يحوم حوله. ومع مرور الوقت، يغوص محمد تدريجاً في الأرض التي لن تلبث أن تبتلعه كلياً، فيتحوّل المنزل إلى مقبرته ويصبح هو ولياً صوفياً في نظر سكّان القرية، ولياً «قتله التقاعد»... من النادر أن نقع على روايةٍ تستعرض ظروف الشيخوخة في الغُربة بهذا العمق والرقّة معاً. وكأن طيبة بطل الرواية فاضت على مؤلّفها وعلى أسلوب كتابته. وفعلاً، تكمن قوة هذا النص أوّلاً في البورتريه المؤثّر الذي يخطّه بن جلون لمحمد فيحوّله إلى شخصيةٍ لا يمكننا ألا نحبّها ونتعلّق بها. وحين نعلم أن الرواية صدرت في فرنسا وأن قرّاءها هم فرنسيون في الدرجة الأولى، تتجلى لنا قيمتها الكبيرة على المستويين الاجتماعي والتربوي ومساهمتها بالتالي في رأب الصدع بين الفرنسيين والمهاجرين المغاربة الذين يعيشون في فرنسا، من جهة، ومختلف أجيال المهاجرين أنفسهم، من جهة أخرى. النقطة الثانية المهمة في الرواية هي تسليطها الضوء على مسألة التقاعد من العمل الذي يبدو لكثيرٍ من الناس كبداية النهاية، وعلى نتائجه المأسوية التي تراوح بين ضياعٍ ووحدةٍ وفقدان لمعنى الحياة. ففي مكانٍ ما من الرواية يقول محمد: «أن نتوقف عن العمل، أن نقطع إيقاعاً اكتسبناه منذ أربعين عاماً، أن نغيّر عاداتنا التي كانت تمنحنا نقاط استدلالنا، أن نتكيّف داخل حياةٍ جديدة، يعني أن نتعلّم الملل بلطفٍ من دون أن نقع في التعاسة». وفي مكانٍ آخر يقول: «التقاعد هو بداية الموت، طرف النفق الذي تختبئ فيه المنية. إنه شركٌ، ابتكارٌ شيطاني». لكن النص يشدّنا أيضاً في عملية الاستبطان المتواصلة التي يقوم بها محمد طوال الرواية، والمصاغة بأسلوبٍ بسيط خالٍ من أي اصطناع أو تكلّف، وبمهارةٍ تقوم على إبقاء بن جلون قلمه على أقرب مسافة ممكنة من سيكولوجية بطله. ولا نعلم بأية خيمياء تحوّل خيار التعبير الحيادي والاقتصاد في الوسائل السردية إلى سحرٍ لا يقاوَم داخل عملية السرد نفسها. لعل الجواب يكمن في التضارب بين بساطة القول ومضمون الرسالة الرهيب.