منذ انتخابه والرئيس ميشال سليمان يعود بصورة ثابتة زادت ترداداً وإلحاحاً في الآونة الأخيرة، الى موضوع تعديل الصلاحيات الدستورية لرئاسة الجمهورية كما غدت عليه في اتفاق الطائف، وكذلك على صلاحيتي رئيسي الحكومة ومجلس النواب. آخر ذلك كان لدى تفقده شعبة كلية العلوم في الجامعة اللبنانية التي ستفتتح في عمشيت، ومن ثم في عدد من الصحف لشرح دوافع المطالبة بالتعديل ومداه، ولاستيعاب ردود الفعل وللتأكيد على «انه لا يطرح التعديلات الدستورية من زاوية نقل صلاحيات من هذا الرئيس الى ذاك او من هذه الطائفة الى تلك، بل على قاعدة ما يقتضيه الايفاء بالمسؤوليات التي نحملها كرؤساء ومؤسسات». مُضيفاً: «ربما لم يكن علي ان أثير مسألة إصلاح الاخطاء في صلاحيات رئيسي المجلس النيابي والحكومة بالطريقة المباشرة التي استخدمتها في عمشيت، لئلا يساء فهمي وحتى لا «ينقز» أحد (جريدة «السفير» 12/11/2009). وهذا مسار ينبئ على الأرجح بأن الرئيس سليمان سيثابر على مطالباته الأمر الذي قد يحوّلها الى أحد عناوين التقاطعات والتمايزات السياسية التي تحبل بها المرحلة الحالية وتغدو بالتالي احد عناصر اعادات التموضع السياسية - الطائفية من اتفاق الطائف على رغم الإصرار المُعلن للرئيس على حصر حركيته بمعادلة «ينبغي على الأقل توضيح ما هو ملتبس في الدستور والآليات التطبيقية، إذا كان الخوض في تعديلات جذرية هو أمر متعذر حالياً». وتقع التعديلات في فئتين: الاولى: عملانية للرد على مشاكل جرت او يمكن ان تجري مواجهتها في الحياة الدستورية الفعلية. كما في حالة عدم وجود جواب دستوري واضح مثلاً ازاء فرضية غياب رئيس الجمهورية، في ظل وجود حكومة تصريف للأعمال، بموازاة رئيس مكلف. او في فرضية تجميد مراسيم وزارية تحتاج الى توقيع وزيرين لعلة امتناع أحدهما عن توقيعها. إضافة الى إلزام الرئيس بمهل معيّنة لتوقيع المراسيم والقوانين او طلب اعادة النظر بها في حين ان الوزير المختص غير ملزم بمثلها. الثانية: جوهرية وتتصل خاصة بصلاحية حل مجلس النواب و/أو إقالة مجلس الوزراء. وهي صلاحية كانت موجودة نصاً، وطُبقّت بدرجات متفاوتة وتبعاً لنسبة القوى وشخصيات المعنيين قبل اتفاق الطائف. وكانت تستند في موضوع الحكومة الى المادة 53 القديمة القائلة «رئيس الجمهورية يعين الوزراء ويسمي منهم رئيساً ويقيلهم ويولي الموظفين مناصب الدولة ما خلا التي يحدد القانون شكل التعيين لها على وجه آخر»، بينما كان حل مجلس النواب يستند الى المادة 55 القديمة القائلة «يحق لرئيس الجمهورية أن يتخذ قراراً معللاً بموافقة مجلس الوزراء بحل مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة». ويصّر الرئيس على تعديل يسمح له بحل أحد المجلسين وهو يقول في المقابلة نفسها: «هناك موضوع الحكومة والمجلس النيابي، يجب ان تكون للرئيس مسؤولية في حل احد المجلسين ضمن شروط محددة»، ويضيف: «هذه مفيدة لمجلس الوزراء والمجلس النيابي. طيب عندما يحصل صراع بين مجلس النواب ومجلس الوزراء من يحله». (من مقابلة له مع «الحياة»، 25/04/2008). وإذا كانت الفئة الاولى من التعديلات تبدو منطقية، فإنها مع ذلك تستثير تحفظات تنطلق من أن التعديل في مسائل عملانية قد يفتح الأبواب لمطالبات بتعديلات دستورية كبرى على اتفاق الطائف تغيّر او تعجّل في تغيير المعادلات الاساسية. وهي تحفظات غير عقلانية، إذ أن استمرار الغموض ومطاطية التفسير في مسائل النصاب والمهل يمكن أن يتحوّلا كما رأينا في الاستحقاق الرئاسي المنصرم الى أداة في يد قوى الأمر الواقع الطامحة الى إضعاف الدولة فضلاً عن شرعنة تدخلات خارجية باسم صياغة تفاهمات جديدة تقود الى زيادة هلهلة المؤسسات، كما الى تقوية دعاوة التيارات التي تعتمد خطاباً يتركز على ما تدعوه «تهميش المسيحيين» وسائر القوى التي تتحدث عن البلد بصيغة وحيدة هي صيغة اعتباره محل تساكن حذر وخصامي. ولذا يبدو إشكالياً تحفظ بعض القوى الوازنة في 14 آذار على هذه التعديلات، في حين كان يُفترَض في التجمع الاستقلالي بمجموعه حملها وجعلها جزءاً من برنامجه الذي يقول إنه يتوخى إعادة بناء الدولة. أما الفئة الثانية من التعديلات فطرحها يبدو أكثر دقة بسبب وقوف لبنان على مفترق خيارات متعارضة جوهرياً ومعطيات انتقالية. إذ أن إعطاء الرئيس حق إقالة الحكومة وحل البرلمان أو أحدهما يطرح مجموعة متزامنة من المشكلات. فلبنان «جمهورية ديموقراطية برلمانية» (الفقرة ج من مقدمة الدستور المُضافة بقانون دستوري عام 1990). وبهذه الصفة يُفترض أن يتجسّد مبدأ الفصل بين السلطات على شكل تناظر بين السلطة الإجرائية التي صار يمثلها بعد الطائف مجلس الوزراء مجتمعاً وبين البرلمان. وبالتالي فإن الدستور حصرالحالات التي يجوز فيها للحكومة حل البرلمان وقيدّها بطلب من رئيس الجمهورية «اذا امتنع مجلس النواب، لغير أسباب قاهرة، عن الاجتماع طوال عقد عادي أو طوال عقدين استثنائيين متواليين لا تقل مدة كل منهما عن الشهر أو في حال رده الموازنة برمتها بقصد شل يد الحكومة عن العمل»· ولا تجوز المقارنة مع فرنسا التي يحب استاذ القانون الدستوري موريس دوفرجيه ان يصف نظامها بال «نصف رئاسي»، حيث يتم انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر منذ إقرار دستور الجمهورية الخامسة، على أن يحق له حل الجمعية الوطنية (مجلس النواب) دون مجلس الشيوخ. والذي له أيضاً حق تسمية رئيس الحكومة على ان يكون من الغالبية. بمعنى انه لا يصبح موجّهاً للسلطة الاجرائية الا متى توافرت له الغالبية النيابية، والاّ وجب ترك الاساسي منها لحكومة غالبية يتساكن معها. والرئاسات في لبنان الجزء الأكثر ظهوراً من النسيج الرمزي لترتيب وتراتبية الحكم بسبب ما صارت اليه المؤسسات من هزال جوهري وتفكك بنيوي منذ غلبة قوى الامر الواقع وحشدها وسلاحها وادارتها واقتصاداتها الموازية. وغدت مع الصلاحيات المنسوبة اليها او يمكن ان تتحصّل لكل منها، الميدان الأبرز لصراع الجماعات اللبنانية الاساسية. بحيث صارت للبعض «طوق نجاة» ولآخرين سداً دفاعياً سلمياً ولثالثين أداة شرعنة لفائض القوة العارية. وبهذا المعنى فإن المطالبة بتعديلات إجرائية وعملانية شيء، والمطالبة بتعديل صلاحيات الرئاسات الثلاث والحق المبدئي بإقالة الحكومة او بحل المجلس النيابي او بالإثنين معاً شيء آخر. فالأخيرة قد تؤدي الى تسهيل صراعات لا يتحكم الرئيس بمسالكها وقواها ونتائجها. ولن تكون على الأرجح ملائمة لما يعلنه من نزوعٍ الى دورٍ تحكيمي مستقل ورغبة بالإصلاح وإضعاف الطائفية والتحاصص. وربما كان مناسباً تذكّر ان الصلاحيات الكبيرة التي كان رئيس الجمهورية يتمتع بها قبل 1975 لم تمنع انهيار «الجمهورية الاولى» والسلم الأهلي. وكذلك تذكّر حديث الجنرال عون الدائم عن الصلاحيات و «الحقوق» وتعديل الطائف، وما ينسب الى حليفه الأقوى «حزب الله» من مصلحة ورغبة بمثالثة طوائفية تطيح واقعياً بالنزر المتبقي من هيكلية دولة كانت تدّعي التشبه بالدول الوطنية المركزية. ولعل تمسك الحزب باستدامة اتفاق الدوحة لجهة حكومات «الوحدة الوطنية» وجعلها مبدأ دائماً، تعبير بليغ عن ذلك بما يعنيه من إطاحة واقعية بنتائج الانتخابات الاخيرة وكل انتخابات مقبلة وباللعبة الديموقراطية التي لا تقع أصلاً ضمن مرجعياته. وحتى بالصيغ الانتقالية المُسوّغة خطأ بالديموقراطية التوافقية، بينما هي في الحقيقة توجه جارف نحو الأشكال الأكثر خطورة من كونفيدرالية طوائفية لا تقول اسمها ولا اسم القوة المدعوة الى الهيمنة فيها وملابستها لقوى إقليمية نابذة لفكرة الدولة اللبنانية. * كاتب لبناني