كل حسم في السياسة ينطوي على قدر ما من المجازفة والاعتباطية، والقيادة السياسية الرشيدة هي التي تعمل على تقليص هامش الاعتباطية وليست تلك التي يحول التخوف من الاعتباطية دونها واتخاذ القرار الحاسم عندما يكون الأمر للحسم، فتضيع حدود المسؤولية ويغشى الضباب الرؤية مما يعطل عملياً كل فعل ايجابي. من الحكمة الاحاطة بمجمل معطيات الموضوع الممكنة وفي الآجال المحددة وليس حكيماً في شيء تعطيل الممارسة باسم التخوف من الوقوع في اخطاء التقدير. اذ يمكن العمل على اصلاح الاخطاء من خلال الممارسة على اساس قرار واضح، بينما تسود العطالة والموات في حال الهروب المنهجي من الممارسة ذاتها. وفي طبيعة الحال، فإن غياب الحسم واتخاذ القرار المفصلي يؤدي، في كثير من الاحيان، الى نتائج وخيمة على مستوى الممارسة السياسية في كل أبعادها، أي سواء على مستوى سيرورتها الفعلية على ارض الواقع او على مستوى نتائجها المباشرة وغير المباشرة التي يتأثر بها مسارها في نهاية المطاف. وقد يرهن مستقبلها بالمجهول في حالات بعينها. ويمكن الوقوف، هنا، عند مسألة الانتظارية السياسية التي تعتبر أحد اهم العناوين البارزة لغياب القدرة على الحسم بغض النظر عن الاسباب المباشرة والدواعي غير المباشرة المساعدة على إيجاد هذه الوضعية الخصوصية. فالوضع، اي وضع سياسي، اذا كان وضع ازمة لا يخرج عن احد الاحتمالات الآتية: احتمال ان تكون الازمة أزمة داخلية في عناصرها الاساسية او احتمال ان تكون الازمة مع قوى خارجية ضاغطة، او ان نكون امام حالة ثالثة حيث تتراكب الازمتان الداخلية والخارجية في فترة بعينها، وفي ضوء هذا التداخل ينبغي التفكير في المعالجة الملائمة. فإذا كان الوضع وضع ازمة داخلية، فإن فرص معالجتها تضيع وتتبدد، وبالتالي، تتفاقم معضلة عناصرها مع طول غياب القدرة على الحسم، وتبتعد، شيئاً فشيئاً عن امكانية الحل الطبيعي. بل إن ما كان ممكناً النظر اليه باعتباره ازمة تطور ونمو للمجتمع، في اي مستوى من مستوياته، قد يتحول الى ازمة بنيوية تستعصي على الحل، وتتطلب قرارات القطع الجذري، وإعادة هيكلة مجمل مؤسسات المجتمع ومرافقه. وفي طبيعة الحال، فإن وطأة استمرار الازمة تكون ثقيلة على مختلف فئات المجتمع وشرائحه. كما ان الحل يستدعي تقديم تضحيات تتضاعف، كماً ونوعاً، مع مرور الزمن، وقد لا يكون للمجتمع قبل بها. الامر الذي يدفع الى سياسات وممارسات هروبية لتفادي مواجهة استحقاقات الازمة مما قد يؤدي الى انفجار الوضع بصورة نهائية، وبطريقة لا يمكن أياً كان التحكم فيها. ولعل هذا هو ما تعبر عنه بعض الانتفاضات العفوية والتوترات الاجتماعية غير المنظمة والتي هي اقرب الى الفوضى وغالباً ما تنتهي الى انتكاسة هي أسوأ حالاً من الوضع المأزوم الذي ادى اليها وجاءت في محاولة يائسة لمعالجته. وإذا كان الوضع يقتضي معالجة أزمة صراع مع الخارج، فإن كل انتظارية قد تؤدي الى تعزيز وضع الخصم الخارجي في مساعيه الى النيل من مصالح البلاد، وبالتالي، فإن ذلك يساعده على فرض مزيد من الانتظارية على صانع القرار والتي تنتهي الى التراجع، وربما الاستسلام والقبول بشروط الخصم في مختلف المجالات، لا سيما اذا كان معتمداً سياسة قوية ومثابرة في هجومها ومتكاملة في اساليبها وخطواتها. وفي الوقع، فإن محصلة هذا الوضع قد تترجم ضغطاً اضافياً على المجتمع، وتقييداً متنامياً وخانقاً للحريات الفردية والجماعية بدعوى توحيد الكلمة، وتضافر الجهود. اي بذريعة ضرورات مواجهة التحديات الخارجية ومطامع الأعداء في خيرات البلاد ومحاولات النيل من سيادتها واستقلال قرارها الوطني. وكلما تزايد الضغط على المجتمع، انتفت امكانية توحيد الجهود على عكس ما يتم ادعاؤه، وتراجعت فرص استعادة المبادرة والقدرة على الحسم بما يعيد النظر في طبيعة العناصر المتحكمة في الازمة. أما اذا وجد المجتمع نفسه امام حالة تكون فيها الازمة مركبة، داخلية، ومع الخارج، في وقت واحد، فإن مضاعفات كل سياسة انتظارية قد ترهن مصير الوطن بالمجهول. أي ان المجتمع ومختلف القوى السياسية والدولة جميعاً هي التي عليها ان تدفع الثمن، وربما على مستوى ما يشكل اساس مقومات الوجود المستقل. ولعل هذا ما يفسر كيف ان القوى الخارجية، في مثل هذه الحالة، تعمل وهي قادرة، على تحويل اتجاه تاريخ كل شعب تتم مواجهته وهو في خضم ازمة داخلية بنيوية تمنعه من الحركة، والفعل كما دلت على ذلك الظاهرة الاستعمارية في مختلف اطوارها حيث لعبت عوامل الازمات الداخلية للمجتمعات المستهدفة دوراً اساسياً في تسهيل مهمة المستعمرين. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هنا، هو: من اين، وكيف، تتأتى القدرة على الحسم؟ ومتى يكون النزوع الى الحسم مغامرة سياسية او استراتيجية ومتى يكون، على العكس من ذلك، تعبيراً عن رؤية سديدة على مستوى التكتيك والاستراتيجية؟ الواقع ان القدرة على الحسم لا تنحصر في توافر عنصر واحد، بل هي محصلة مجموع الموارد والطاقات الاقتصادية والاجتماعية والبرنامج السياسي الاستراتيجي والارادة السياسية المصممة على استثمار كل امكانات الدولة والمجتمع في مواجهة متطلبات الممارسة السياسية، وعناصر الازمة الاساسية الداخلية، المحضة، او الخارجية المحضة، أو المركبة بين هذين البعدين، في الوقت ذاته. ذلك ان عدم التمكن من اخذ كل هذه العناصر في الاعتبار، والقصور في التحكم في مجرى الامور على صعيدها، منفردة او مجتمعة، يحولان كل محاولة للحسم الى مجرد مغامرة، لأنها محاولة مكشوفة، ولا تتوافر لها الشروط الضرورية للنجاح. وبالتالي، فأن تدخل ضمن خانة المغامرة اولى. وعلى العكس، من ذلك، فإن صانع القرار السياسي الذي يكون قادراً على اتخاذ القرار على قاعدة استثمار كل الموارد والطاقات، وعلى قاعدة تكتيكات ملائمة، وفي افق تحقيق استراتيجية متناسبة مع امكانات المجتمع والدولة، يكسب، من خلال اخذ المبادرة بالحسم الشيء الكثير، على حساب عناصر الازمة الداخلية، وفي رفع تحديات الضغط الخارجي، وفي التحرر من شرنقة ازمة الداخل ومع الخارج المركبة. صحيح ان ذلك لا يكون من غير أثمان باهطة، في اغلب الاحيان، لكنها اثمان اقل بما لا يقاس من اثمان الانتظارية والاستنكاف عن اتخاذ قرار الحسم بوازع حكمة مزعومة قد تؤدي الى ضياع الاوطان. * كاتب وصحافي مغربي